أخبارمنبر حر

المبدع العربي بين مطرقة السوق وسندان الروح

هل ما زال الفن ممكنًا ..؟

                              بقلم:سعيد ودغيري حسني

وأنا جالس في أيام العيد هاته، أتأمل الوضع الثقافي والفني في بلادي وفي البلدان العربية .. تحاصرني أسئلة لا تهدأ، وأصواتٌ تتداخل في رأسي بين الماضي الذي كان فيه الإبداع رسالة، والحاضر الذي يُغري بالمكسب السريع .. وبين صمت الأرواح التي أُنهكت، وصخب الشاشات التي لا ترحم، وجدتني أخلُص إلى هذا العنوان الذي سأكون سعيدًا بتقاسمه معكم، ليس لأنه جواب، بل لأنه جرح مفتوح

المبدع العربي بين مطرقة السوق وسندان الروح

هل ما زال الفن ممكنًا في هذا الزمن المائل إلى الضجيج أكثر من الإصغاء، وفي هذه اللحظة التي غلب فيها السطح على العمق، يبدو المبدع العربي كمن يمشي على حبل بين جبلين، وفي يده قنديل مكسور يحاول أن يضيء دربًا لا يراه أحد سواه، وهو يدري أن الهواء لم يعد هواء وأن التراب لم يعد ترابًا، وأن ما يُطلب منه ليس الفن بل المحتوى، وما يُكافأ عليه ليس الجمال بل الانتشار، وما يُحتفى به ليس الصدق بل الطنين

المبدع العربي اليوم يسكن جسدًا منفى

وروحًا منكمشة .. يكتب وهو يعرف أن الحروف لا تُطبع كما كانت، وأن الورق أُستبدل بشاشة، يوأن القارئ لم يعد يقرأ بل يمر بعينيه مرور الكرام، صار يبدع في زمن لا يريد الإبداع بل الإبهار، ولا يطلب الحكاية بل الإثارة، ولا يصغي للكلمة بل يقاطعها بالصورة

كان الفن ذات يوم طريقًا نحو الروح، وصار اليوم طريقًا نحو السوق، وكان الفنان يحمل الألم ويتعذب ليمنح الآخرين أملاً، وصار الآن يُطلب منه أن يضحك .. أن يرقص .. أن يُروّج .. أن يتغيّر كل يوم لينال إعجابًا مؤقتًا، ثم يُنسى في اليوم التالي

نحن أبناء أمجاد بعيدة .. لكننا، نُحاصر اليوم بتطبيقات لا تحفظ إلا ما يُروَّج له بخوارزميات لا تعرف الإحساس

بمنصات تقيس القيمة بعدد التفاعلات، وبمؤسسات ثقافية لا ترعى الإبداع بل تُدجّنه، صار على المبدع أن يُراعي معايير الإنتاج لا معايير الإبداع .. أن يكتب ما يُباع لا ما يُقال .. أن يتنازل عن لغته لتُترجم إلى رموز شعبية،

عن فكرته لتُمسخ إلى قالب سهل الهضم، عن حلمه ليُصبح برنامجًا قصير المدى .. لكن، ورغم كل ذلك ثمة شيء لا يُكسر .. ثمة نواة صلبة في أعماق الفنان .. ثمة يقين بأن الفن لا يموت، وأن الصدق لا يُستبدل،

وأن الكلمة التي تخرج من القلب ستجد قلبًا ولو بعد حين

المبدع الحقيقي لا يشتري موقعًا في السوق، بل يزرع موقعًا في الذاكرة، لا يقف على خشبة العرض ليرضي الجمهور، بل ليقول شيئًا قد يُزعج .. قد يُخيف .. قد يُوقظ

الفن ليس تهدئة، بل إيقاظ، ليس ترفيهًا بل تغييرًا، ليس ترضية للذوق بل خلق ذوق جديد .. قد يهاجر المبدع العربي من وطنه، أو من لغته، أو حتى من ذاته .. لكن، الفن لا يهاجر، لأن الإبداع لا وطن له إلا الصدق، ولا لغة له إلا النور

الفنان في هذه المرحلة التاريخية يشبه ناسكًا في صحراء إعلامية .. ينقش حروفه على الرمل، ويعرف أن الموج سيأتي .. لكنه، لا يتوقف، لأنه لا يكتب لينجو، بل ليشهد،

وإذا كنا نعيش زمنًا يُصفق للسطح، فإن العُمق لا يصفق،

بل يصمت، وحين يصمت المبدع العربي .. فهذا يعني أن الحضارة بدأت تسعل .. هل ما زال الفن ممكنًا ..؟ نعم .. لكن، ليس في السوق، بل في الزاوية الوحيدة التي لم تلوثها الخوارزميات في الروح

زبدة القول

ليسالفن العربي في أزمة إبداع، بل في أزمة اعتراف، والمبدع الحقيقي لا ينقرض، بل يُقصى، والذي يكتب بروحه سيُقرأ يوماً ما، ولو بعد انطفاء الأضواء .. فالفن ليس ابن السوق، بل ابن الحاجة إلى المعنى، وحين تشتد المطرقة ويثقل السندان تولد القصيدة الأصعب، وتُروى اللوحة الأكثر وجعاً، وإن سألني أحد يوما من أين أكتب ..؟ سأقول: من حيث يحترق الداخل بصمت، ويضيء العالم دون أن يطلب شيئاً في المقابل

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق
إغلاق