أخبارالدين و الناس

مجادلة علمانيين .. تـــابع

د. الصديق بزاوي

DOCTEUR

اعتماد المرجعية الإسلامية يؤدي إلى الاستبداد

إذا  كان جميع العارفين بالشريعة يقرون بقدرة هذه الأخيرة على استيعاب الاختلاف المحمود الذي يشكل سمة أساسية من سمات الديمقراطية، فإن بعض العلمانيين لا يزالون يتنكرون لهذه الحقيقة بغية إلصاق تهمة الاستبداد السياسي بالمرجعية الإسلامية، وذلك ما يتضح من خلال المداخلة الآتية .

“إن الاحتكام المطلق إلى مرجعية وحيدة ( يقصد المرجعية الإسلامية) في التنظير والتنظيم العقائدي والمذهبي الإيديولوجي للدولة والمجتمع، وهذا الشرط نفسه يقتضي أن لا تكون الدولة هي المنبع الوحيد للإيديولوجية .. ففي ضوء ثوابت الثقافة السياسية الحديثة، يعتبر احتكار الإيديولوجية أحد مظاهر استبداد الدولة، أو بتعبير آخر اختراق الدولة للمجتمع.”

يفهم من هذا الموقف، وإن كان يحتاج إلى بعض الدقة والوضوح، أن الشريعة الإسلامية مجرد إيديولوجية، وأن المشروع الإسلامي يؤدي إلى اعتماد هذه المرجعية الوحيدة، ومن شأن ذلك أن يؤدي إلى استبداد الدولة، وكأن مجادلنا يريد أن يقول بأن العلمانية تتميز باعتماد مرجعيات متعددة، وأن هذا التعدد في المرجعيات هو الذي يضمن الديمقراطية عكس المشروع الإسلامي .. والحق أقول أنني لم أفهم ماذا يقصد مجادلنا بتعدد المرجعيات في النظام العلماني وتفردها في المشروع الإسلامي .. ! ومن غير أن نصرف اهتمامنا إلى تحليل هذا الموقف فكرة بعد فكرة، فإننا سنقتصر على الفكرة المحورية والتي يستفاد منها بشكل واضح أن العلماني يدعي اقتران اعتماد المرجعية الإسلامية بالاستبداد السياسي .. وذلك بحجة كونها مرجعية وحيدة مهيمنة.

قبل الرد على هذه التهمة الخطيرة، لا بد أن نذكر بما أشرنا إليه سابقا عند حديثنا عن الطابع الشمولي للشريعة الذي أوضحنا فيه بشكل مفصل، أن السياسة جزء لا يتجزأ عن الإسلام .. مبرهنين على ذلك بما يكفي لدحض ما يدعيه العلمانيون من كون الإسلام مسألة خصوصية لا علاقة له بمسألة تسيير دواليب الحكم .. إن إقصاء السياسة عن الإسلام مخالفة شرعية وتقصير في الإيمان، و أن ممارسة السياسة وفق الشريعة يعد عملا تعبديا يتقرب به العبد من ربه، واجتهادا يثاب عليه القائم به لكونه يشكل امتثالا لأمر الله سبحانه .. وانطلاقا من هذه الحقيقة، فإن المؤمن الحق، لا خيار له في تطبيق شرع الله في جميع المجالات .. كما أننا نذكر بأنه لا يوجد في الشريعة السمحة ما يمنع من تبني قواعد ونظريات وآليات سياسية تتضمنها العلوم السياسية التي أنتجها العقل البشري، كما أنه لا مانع من اتخاذها مرجعيات مكملة لا تعلو عن المرجعية العليا التي تشكلها الشريعة، ولا تتعارض معها مهما كانت عبقرية مبدعيها، لأن هذه المسالة من مقتضيات الإيمان بالوحي الذي يعلو ولا يعلا عليه .

أما فيما يخص إرجاع أسباب الاستبداد الذي تميز به ولا يزال، واقع جل الدول الإسلامية، فإننا نذكر بأن هذه الدول المستبدة لا تعتمد المرجعية الإسلامية بقدر ما تعتمد المرجعية العلمانية، أو كما وصفها أحد المهتمين فهي دول هجينة، نصفها إسلامي ونصفها علماني، أو كما نعتقد نحن، شكلها إسلامي وجوهرها علماني .. ومهما يكن وصفها، فإن ذلك لم يمنعها من أن تكون مستبدة .. فلنقرأ التاريخ القريب لنرى كم هو عدد الدول العلمانية التي مارست أشد أنواع الاستبداد والقهر، لا على الصعيد الداخلي فحسب، وإنما على الصعيد الخارجي أيضا .. ولنا في ألمانيا النازية وإيطليا الفاشية وروسيا السطالينية خير مثال .. فهل يحق لنا والحالة هذه، أن نرجع أسباب ذلك الاستبداد إلى المرجعية العلمانية ..؟ لا وألف لا .. فكل حكم لا يستند إلى حجج وبراهين يعتبر مجرد كلام لا يهم إلا صاحبه، مصداقا لقوله سبحانه :” قل هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين.”

وصحيح أن بعض الحركات الإسلامية لا تستوعب الأنظمة المعاصرة و إنتاجاتها الفكرية وتجاربها العملية الناجحة، جملة وتفصيلا .. وأن هذه الحركات تفتقر إلى تحليل عميق للنصوص الشرعية يتجاوز منطوق النص وظاهره ليمتد إلى روحه ومقصده .. إذ، أن تحقيق المقاصد يشكل أهم أهداف الشريعة .. ونحن متأكدون أن هذا التوجه الذي يشكل شدودا سوف يختفي بمزيد من التفقه في الدين وتحيين مفاهيم النصوص، وبتوقف الأيدي الخفية، الخارجية والداخلية التي تغذي تخلف المسلمين ماديا وفكريا وإعلاميا لتحقيق أغراض منفعية وسياسوية ومآرب أخرى .. وكذلك بتجنيد كل وسائل الإعلام والتواصل والتكوين والتوعية ،واعتماد المنطق والبرهان العقلي والنقلي، والقول اللين عند كل مجادلة علمانيين أو غيرهم من المهتمين .. و ذلك، لكون التوجه (السياسي-الفقهي) الرافض لكل اجتهاد وإبداع بشري، قد يشكل تربة خصبة لاستنبات التطرف الذي تعاني منه المجتمعات الإسلامية قبل غيرها .. كما أن اعتماد مقاربة العنف والقمع والتضليل و الاستفزاز، قد يؤدي إلى نتائج عكسية، وسوف يصب الزيت على النار، ولن يؤدي إلى أي نتيجة إيجابية .

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق
إغلاق