أخبارمنبر حر

زركشة المفاهيم

ذ. عبد الرحمان المجدوبي

عبد الرحمان المجدوبيما الذي يجعل البعض منا يعشق زركشة المفاهيم، كما تزركش الزرابي وتلون بمستخلصات السرو والورد والرمان، فيُضفي عليها رونقا كما الأشياء الجميلة التي تُفتن بها العين، ويتيه في حسنها القلب، وتُهدم الحواجز وتنقرض الموانع، ويَعود الرفض قبولا بلا شرط، والتحريم والتجريم ذنبا يُرمى به صاحبه ليُنفى من وطن المرضي عنهم باللسان والجنان، السائحين في درب فن التجميل، الغارقين في سمر الليالي المقمرة .. أطرح السؤال لأجد نفسي مقتنعا برغبة الفاعلين الأساسيين في إضفاء الشرعية على هذه المفاهيم بتنميقها كما تنمق العرائس العوانس، وكما تنصب الشراك للفرائس، وكما تظهر الجنيات بلباس “تسليت” في كبد الليل بأحلامه الممتعة المزيفة .. أتساءل ما الذي يدفع هؤلاء لزركشة المفاهيم، فلا أجد جوابا سوى الرغبة في تقديمها وليمة كما تقدم الولائم للجياع الرعاع، فتخاطب العاطفة بدل العقل، ويسيل اللعاب، ليفسد الشهامة، ويهدم القناعة، ويجعل من الإنسان ذلك المخلوق المفترس الذي يحتل قمة السلسلة الغذائية بلا منازع.

هذه المفاهيم لا تجد بيئة خصبة، سوى تلك البقاع المسلوبة المنهوبة بأيدي أبنائها، العارضة نفسها للتخصيب والتهجين وكل ألوان فض الكرامة بدخلة مسروقة من غريب احتل الدار في جنح الظلام، وقدم نفسه حلا لكل أوجاع الأمة المستعصية على الشفاء، فتزركش المفاهيم عندما يتعارض تقديمها مع قيم وثوابت الأمة، فلا يدخر هؤلاء الرعاع جهدًا في تطبيق منهج إبليس – المُلقن الأولِ للتدليس – فيَفِي بعهدِه الذي أخذه على نفسِه من خلال توريث منهجه لكهنته وأتباعه من الإنس، فقلبوا المعاني، ودلسوا الحقائق، وأدخَلوا الناس في متاهات ودَوامات من الشك والتيه، لدرجةٍ أصبَح معها الزنا واللواطُ والسحاق يسمى حرياتٍ فرديةً، والخمورُ وغيرها من المُسكِرات تسمى مشروباتٍ رُوحيةً، والتعفُّف تقوقعا وانغلاقا وتزمُّتًا وتخلفًا، والقِمار حظًّا ولعبا وفرصة، والتغريب تنويرا وحداثة، والتخلف سيرا في طريق النمو، والرقص الماجن تعبيرا جسديا وفنا راقيا.

يستحيل اليوم ضبط قنوات التأثير والتغيير التي تخاطب المرء وتعيد توجيهه وبرمجته، سواء بشكل إيجابي أو سلبي .. خصوصا، أمام الكم الهائل من الصور والأشرطة والمقالات والبرامج المعروضة عليه، في غفلة الوالدين عن أبنائهم، وفي غفلة المسؤولين عن رعاياهم، وتواطأ المتاجرين بالأفكار والقيم ضد زبنائهم وضد دفاتر التحملات التي تعهدوا بالالتزام بمقتضياتها. يصعب الوقوف أمام هذا الإعصار الذي يأتي على الأخضر واليابس، ويقتحم الدور والمراكز والمقاهي والمدارس، فيخاطبنا بلغة الغزل، وينشد معنا الأمل في المستقبل، متسلحا بسلاح المنهج، منوعا عروضه بين التراجيديا والفكاهة، بين السخرية القاتمة الباهتة، والحقائق المبكية الصادمة .. مستغلا وجوها أصابها المسخ من كثرة الكذب، وتحمل تملق الراغبين في نيل الفرصة الطامحين للمشاركة في اللعبة.

لا شك، أن زركشة المفاهيم فن من الفنون التي تحتاج لكثير من الفطنة والذكاء والمعرفة بأحوال الإنسان .. لكنه، أيضا فن يقوم على شراء الذمم وقبول الخيانة بمادة أولية محلية بسيطة لا تكلف سوى حسن الصياغة، والقدرة على مخاطبة المرغوب الممنوع في قلوب عشاق ومحبي هذا اللون من الفنون الجميلة، المكرسة لاستمرارية العروش وترسيخ الولاءات، مقابل وعود بضخ المياه العكرة في مستنقعات لا رقيب عليها، حتى يسهل الصيد، ويرتفع سقف المحاصيل في سوق سوداء لا يعرف الكساد لها سبيلا، تبيع الفضة بالذهب، والنبق بالعنب، والحشف بالرطب .. سوق لترويض القيم وقلب المعايير وغسل الأدمغة واللعب بالأرقام وتسخير التقارير ولجان الاستقصاء، لتختزل الحلول في لبس الساعة باليد اليمنى، والتوظيف بالعقدة، ودبلجة الأفلام لتصل الرسالة للمحصنات الغابرات في دروب الحشمة، وحل المشاكل بالتنقيط، والمنازعات بالتحنيط، والعزوف بالتصويت، وتحصيل الحقوق بالتقسيط بعد دهاء -الدلال- في -دلالته- وشيطنة -الشناق- في إنطاق بهيمته، شاهدة مانحة وريدها للحديد، ولحومها للعبيد.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق
إغلاق