أخبارمتفرقات

مدينة فاس الإرث الحضاري والغذاء المفقود

E A

عبد الرزاق الفلق

الإرث الحضاري والثقافي ويشمل مجموع المعتقدات والعادات واللغة والأساطير والكتابات، بل هي الحياة الفكرية والعلمية لشعب من الشعوب، أو هي ما يميزها عن غيرها، وهي كذلك تتمثل في الأملاك المنقولة وغير المنقولة، كالنصب المعمارية والفنية أو التاريخية والدينية واللايكية .. كالمواقف الأثرية، المخطوطات وأشياء أخرى ذات أهمية من كتب وأرشيف، فمن خلالها يتسنى لنا القول : أن الثقافة المغربية مثلا تختلف عن تلك التي عند المصريين و السوريين أو الجزائريين، وان كانت جميعها تنتسب لحضارة واحدة ألا وهي الحضارة العربية الإسلامية .. والتاريخ يشهد أن هناك حضارات عظيمة تطورت واندثر في حقب أو أماكن مختلفة، وان استطاع الإنسان بناء أخرى على تحديدات زمنية معينة، ويمكن أن نميز من بين هذه الحضارات، مثلا السومرية والفرعونية والإغريقية وغيرها .. من هنا يحق لنا القول أن مدينة فاس كإرث حضاري عريق حافل بالعديد من المآثر التاريخية، سواء منها المعمارية أو المخطوطات أو التقاليد والأعراف، أنها العاصمة الأولى للمغرب مند سنة 808 م .. ففي نهاية القرن السابع، فر المولى إدريس الأول من بطش العباسيين في بغداد والتجأ سليل الدوحة الشريفة عند قبائل البربر بالمغرب الأوسط .. وبعد مبايعته ملكا على المغرب، أصبح إدريس الأول أول حاكم مسلم بالمغرب، وفي سنة 789 م، أسس عاصمته الجديدة على الضفة اليمنى لنهر الجواهر والتي أصبحت فيما بعد تعرف بفاس .. وبعد موته حمل ابنه إدريس الثاني المشعل ليتمم الأشغال في الضفة اليسرى لنهر الجواهر .. وفي سنة 809 م، قرر أن يجعل منها عاصمة لملكه، ومنذ ذلك الوقت أصبحت فاس أول مدينة إسلامية بالمغرب، حيث احتضنت بعد ذلك العديد من اللاجئين من الأندلس وقرطبة، وتوالت السلالات على فاس تاركة وراءها مآثر تاريخية تشهد على عظمتها من مدارسها ومساجدها وقصورها، وكذلك حدائقها الغناء، وبذلك أصبحت فاس المركز الديني والثقافي للمغرب، ولا غرابة أن تصبح مدينة فاس، مدينة ألف ليلة وليلة، وعاصمة تاريخية وإرثا روحيا وقبلة لا محيد عنها لعشاق المدن التاريخية والفن المعماري العربي الأندلسي.

ان التجول بفاس البالي فرصة لاستعادة الذاكرة ونبش التاريخ العريق، ولا غرابة في ذلك إذ بأول ضربة فأس سنة 808 م، من طرف إدريس الثاني من أجل بناء المدينة رفع يده إلى السماء وقال :” رب، اجعل هذه المدينة مدينة العلوم ودار العلوم والدين” وهكذا كان عبر قرون وإلى يومنا هذا.

تعتبر فاس مهد الدول ومنارة المغرب وقبلة فكرية لجميع المفكرين ورجالات الأدب والفن والغناء، إنطاقا من المهرجانات .. المعارض وغيرها، إلا أن ما نخشاه كون الحضارة الغربية بزبدها الطافي و الانفتاح الزائد، تزداد هجوما وإطباقا علينا فينساق الناس إليها استلابا وانجرافا دونما أن يسمعوا صيحات التحذير وأناة البيوت والرياضات .. ولا يخفى على أحد، كم من المعالم التي طالها التهميش، وكم منها أضحت ملكا للأجانب الذين عمدوا إلى تغيير ملامحها لجعلها تتماشى مع مشاريعهم الاستثمارية .. ! ولا دضير في ذلك إذا ما نحن تمسكنا بإرثنا الحضاري، فمهما فعلوا فلن يطالوا هذا التاريخ، ولن يستطيعوا تزييفه وتحريفه، وهنا يحق لنا أن نتساءل : هل من حصن يعصمنا من الغرق الذي بات وشيكا ..؟ هل من سبيل لمواجهة هذا المد العولمي ..؟ كيف يمكن استعادة أصالتنا الذاتية ..؟ لن يختلف إثنان في كون الإجابة تكمن في إرثنا الحضاري الذي ورثناه عن أجدادنا، إذ بدونه نفقد هويتنا وعراقتنا العربية الإسلامية بكل مقوماتها .. ولكي يتحقق ذلك، وجب علينا لا كأفراد، بل كجماعات، أن نعمل وفق منهجية وإستراتيجية منسجمة ينخرط فيها قادة الأمة وحكامها، لأن المجهودات الفردية المتناثرة لا تجدي نفعا، وكما يقول الدكتور محمد سعيد رمضان البوطي :” وهذا هو السر في أننا نجد بلادنا هذه تفيض بالعباقرة الأفذاذ من الرجال دون أن يكون لهم اثر في الدفع بعجلة أمتهم نحو التقدم، ذلك لان العمل الحضاري إنما ينهض بجهود أمة، ولا يمكن أن يتحرك بمساعي أفراد”.

إن كل متبصر عارف سيدرك الأهمية الحضارية ودورها في ترسيخ الهوية وتحديد العصور .. لكن، إذا كان هذا الإرث يتعرض إلى عدة انتهاكات : كالسرقة والنهب والتخريب والاتجار الغير مشروع، هذا الأخير، الذي لا يعتبر جريمة، بدأ يعرف تطورا مخيفا إن على المستوى المحلي أو الوطني، أو حتى الدولي .. ناهيك عن بعض السلوكيات التي تنهجها بعض الفئات المحسوبة على السياحة والثقافة بهذه المدينة .. وليعلم الجميع أن من بين السبل الناجعة للحفاظ على هذا الإرث الحضاري الذي تمثله مدينة فاس، وجب علينا أن نتحلى بالمسؤولية، وأن نعمد إلى تلقين أبنائنا الأسس الفعلية للحفاظ عليه، إن في المؤسسات أو الجمعيات أو عبر دورات تكوينية، تؤطرها وزارة الثقافة والجهات المسؤولة.

إن تحقيق هذه الأهداف رهين بإذابة الفرد في الجماعة والتخلي عن الأنانية والمصلحة الشخصية حتى لا نكون كما قال الرسول عليه أفضل الصلاة والسلام : “لا يأكل الذئب من الغنم إلا القاصية” فحذاري من الفردانية والمصلحية، فالغذاء في الدين موجود وليس مفقود.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق
إغلاق