أخبارملفات و قضايا

تاريخ قيادة “قبيلة بني يازغة” بين الواقع والخيال (الجزء الثاني)

1000308

*محمد شدادي

توطئة

خلال الجزء الثاني من سلسلة المقالات حول تاريخ قيادة “بني يازغة” سنحاول جاهدين إلقاء بصيص من الضوء حول تاريخ قبيلة “بني يازغة” في علاقتها بالقبائل المجاورة، وبمركز السلطة بمدينة فاس .. خلال العقد الأخير من القرن الثالث عشر الهجري .. ولعل في اقتصارنا على البحث على هذه الفترة بالذات ـ وما يليها من تاريخ القبيلة والمنطقة ككل ـ ما يبرره، ذلك أننا خلال هذا التناول، سنعتمد على الموروث التاريخي الكبير الذي يوجد تحت حفظ لحسن اليوبي، أحد حفدة القايد حمادي البوكّريني .. وأملنا كبير في أن ننفض الغبار عن هذه المجموعة النادرة والفريدة من الوثائق والنصوص التي قد تزيح الستار عن مجاهل هذه الحقبة الموغلة في النسيان والغموض.

نبذة عن الأوضاع العامة بالمغرب خلال الربع الأخير من القرن 19 الميلادي

وحتى يتسنى لنا تعميق البحث، و استقراء الأحداث المحلية بجلاء، وفهم علاتها وعلاقاتها وتداخلاتها بشكل أرحب، ورؤية أشمل وأعم .. كان لزاما علينا إيراد ملخص بسيط عن الأوضاع العامة بالمغرب خلال هذه الفترة من التاريخ، فقد بويع السلطان مولاي الحسن الأول عاهلا للمغرب بحاحا سنة 1290ه/ 1873م، بعدما تلقى نعي والده السلطان محمد بن عبد الرحمن (محمد الرابع). لينتقل في 27 رجب من نفس السنة إلى مراكش لاستقبال الوفود التي تقاطرت من سائر جهات المملكة لمبايعته .. وبعد أن قضى عيد الفطر بالرباط ، انتقل باتجاه مكناس، ليصل إلى فاس في سادس ربيع الأول من سنة 1291ه /23 أبريل 1874م، لأجل مواجهة الاضطرابات التي شهدتها المدينة حول قضية المكوس، وامتناع الدباغين ومن شايعهم عن بيعته إلى حين أن ترفع عنهم هذه الضرائب، فعمل على مواجهة المشاغبين وقمع الاضطرابات بالقوة، وإعادة إقرار المكوس على سابق عهدها باعتبارها موردا هاما للدولة، كما أن إعفاء أهل فاس لا محالة كان سيؤدي إلى عصيان باقي مدن المملكة لأجل إعفائها أيضا من تسديد هذه الضرائب للمخزن، كما عمل على فرض غرامة حربية على أهالي فاس، مع إقرار التجنيد الإجباري لهم بنسبة 500 نفر كسائر مدن المملكة، مع إحداث تعديلات في مناصب الإدارة بفاس، بما في ذلك منصب العامل الذي أسند إلى “الجيلالي بن حمو” بدلا من “ادريس السراج” الذي اعتبر ضليعا في هذه الاضطرابات..!

وخلال الفترة التي استغرقها حكم مولاي الحسن الأول، والتي تناهز عشرين سنة، فقد قام بمحاولة مستميتة لإصلاح أخطاء بعضها يعود إلى أكثر من قرن قبل توليته، وبعضها حدث من عهد مولاي سليمان، أو في عهد سلفه محمد الرابع (بعد المواجهة الحربية غير المنظمة ضد الإسبان بتطوان) وهكذا قدّر للسلطان أن يضرب في عدة جبهات:

v ـ الجبهة الداخلية
v ـ الجبهة الإسبانية شمالا وجنوبا
v ـ الجبهة الفرنسية في الحدود الشرقية
v ـ الجبهة الدولية مجتمعة في القوى العظمى.

وقد اشتهر مولاي الحسن الأول بأنه طيلة ملكه عاش على صهوة جواده، وهو ما يفسر إلى حد بعيد الأحوال التي كانت عليها البلاد إبان هذه الفترة .. خصوصا، بعد حرب تطوان، واندحار المغاربة المفاجئ أمام الإسبان .. فإن أحوال البلاد لم تكن مستقرة من الوجهة الاقتصادية والمالية .. خصوصا، مع ضعف المؤسسات والإطارات عن تحقيق إصلاح جذري شامل، وهو ما ساعد على انتشار الاضطرابات المحلية، وتفشي الفتن والمؤامرات، وقيام النزاعات، وظهور التمرد، وتوالي الثورات، مما أرغم السلطان بالتالي على التحرك بنفسه للقيام بإخماد هذه الفتن، ومواجهة المتمردين، واستخلاص الجباية، وفض النزاعات، حيث أطلق المغاربة على هذه الحملات العسكرية “الحرْكات”. واستهدف معظمها خلال هذه المرحلة الأطلس، المغرب الشرقي، وسوس، ثم تافيلالت وغمارة والحوز، في محاولات مستميتة لرتق ما أفسده التاريخ، وإصلاح أخطاء الماضي، في أقصى حدود إمكانيات المخزن ماليا وبشريا وعقليا، حيث ظل السلطان حريصا على توطيد شؤون الحكم، مع المحافظة على نظام المخزن، وقمع القبائل المناهضة .. كما حاول تنظيم الجيش، مع تعميم التجنيد الإجباري، وتكوين الإطارات على يد خبراء أجانب، واعتماد البعثات الطلابية إلى الدول الأوروبية، مع القيام بمحاولة متواضعة لتصنيع الأسلحة بموازاة مع ذلك؛ حيث أنشئ مصنع للبنادق والمدافع الخفيفة بفاس.

نموذج لحرْكات السلطان .. ثورة المغرب الشرقي

ومن بين أبرز “حرْكات” المولى الحسن الأول لتطويق هذه الثورات، والقضاء على حركات التمرد، ونزع فتيل الفتنة، وقمع الاضطرابات، ومجابهة المتمردين، نُوردُ ما وقع بالمغرب الشرقي .. ففي سنة 1292ه/ 1874م، عادت أحداث هذا الثغر لتبرز على الميدان، وتطفو على السطح بعد ربع قرن أو يزيد من استقرار الأحوال على هذه التخوم ذات الحساسية السياسية، حيث تزعم الثورة خلال هذه المرة وتولى كبرها بوعزة الهبري، نسبة إلى هبرة بنواحي مستغانم الجزائرية، وكانت ثورته بنواحي وجدة، بعد أن ساعده الشيخ “مولاي سعيد بن أحمد” أحد صلحاء سغروشن، التي كان أغلبها ينتمي لدرقاوة، وشايعه “بنو وراين” وقسم من الحياينة و”بني سادن” بالإضافة إلى سغروشن، وعاث أنصاره بمختلف الجهات المجاورة لتازا، فعزم السلطان على النهوض إلى تلك الناحية وتمهيدها، ونفي الدجاجلة عنها، فاستعد غاية الاستعداد، وجدد الفساطيط، وكسى الجنود فرسانها ورماتها قديمها وحديثها .. وأسند قيادة الجيش الملكي إلى القائد “الحاج منو”، ثم نهض السلطان من فاس صيف السنة المذكورة وبدأ مطاردة المتمردين في منتصف رجب سنة 1291ه. ولما بات مولاي الحسن في الليلة الثانية بأيت سغروشن أغار على المحلة ليلا أبو عزة الهبري ومعه سعيد بن أحمد السغروشني، فماجت المحلة بعض الشيء، ثم تراجع الناس وأخذ الجنود مراكزهم، وصوبوا المدافع وآلات الحرب نحو عدوهم فشردوهم، فكان ذلك آخر العهد بهم، وقبض على عدد من الثائرين وقطعت رؤوس منهم .. ثم تقدم السلطان في جموع مؤلفة من الجيش السعيد المظفر، وأنجاد نظام العسكر، وغزاة القبائل الغربية بربرية وعربية إلى قبيلتي “بني سادن” و”أيت سغروشن” فأوقع بهم، وقتل وأسر، وانتسفت الجيوش زروعهم، وبعثرت أرضهم وديارهم، فلجؤوا إلى “بني وراين” متنصلين متبرئين إلى السلطان من الثائرين، فقبلهم وولى عليهم رجلا من أعيانهم، ثم جاء “بنوسادن” و”أيت سغروشن” تائبين خاضعين، فعفا عنهم ووظف عليهم مائة ألف مثقال وزيادة أربعمائة من الخيل، فأذعنوا لأدائها، واستوفاها السلطان منهم في أوائل شعبان من السنة.

ثم انتقل مولاي الحسن بنفسه إلى تازا لمراقبة الهجومات والعمليات العسكرية إلى أن تم القبض على الثائر بقبيلة “كُلال”، ثم سيق إلى سجن فاس، ثم إلى مراكش حيث توفي سجينا .. أما نصيره “مولاي سعيد بن أحمد” فقد قتل غيلة بمنزله، في الوقت الذي ألزمت فيه القبائل التي ناصرت ثورة بوعزة الهبري ـ بني وراين .. بني سادن .. الحياينة .. سغروشن ـ بأداء مغارم باهظة كما تقدم تفصيله آنفا.
انعكاس الأحداث الوطنية على الواقع المحلي للقبائل

وقد انعكست هذه الأحداث الوطنية سلبا على الواقع المحلي للمنطقة، فكانت القبائل المتجاورة في صراع دائم بينها، ومنافسة شديدة لفرض سيطرتها، والاستيلاء على الأراضي الخصبة الصالحة للزراعة والرعي، ومزيد من المطايا والمواشي والمؤن .. خصوصا، في بعض السنوات العجاف التي شهدت المجاعة، وانتشار الأوبئة، مع قلة الإنتاج في مجال الحبوب (كانت سنة 1295ه عام مجاعة انتشر خلالها داء الكوليرا، وعُرفت سنة 1296ه بقلة الإنتاج في الحبوب) .. وقد كان الصراع على أشده بين قبيلة “بني يازغة” و”بني وراين” لهذه الأسباب، وتحكي الروايات الشفوية عدة معارك وغارات دارت بين الجانبين، استعملت فيها الخيول والبارود، وخلفت قتلى من الجانبين؛ وكان العداء متمكنا ومستحكما بينهما، ولم يقتصر الأمر على ذلك، بل امتد الصراع لباقي القبائل، وخصوصا قبيلة “بني سادن” التي كان موطنها على الطريق الوحيدة للمسافرين والقوافل والتجار إلى مدينة فاس، ولا غنى للقبائل الأخرى عن المرور بهذا الطريق، حيث كانت الكمائن تستهدف مواد التموين والماشية، وأغلب الهجومات تتخذ طابع السلب والنهب .. في الوقت الذي ظلت فيه إمكانيات المخزن المحدودة آنذاك عاجزة عن تطويق هذا الصراع، وردع الجناة وعناصر الفساد، وقمع القبائل المتمردة، وإخماد الفتنة، وفض النزاعات .. خصوصا، مع شساعة التراب الوطني، واتساع رقعة الفتنة، وكثرة الاضطرابات، وتمرد بعض القبائل عن تموين جيش السلطان، مع سوء الأوضاع الاقتصادية والمالية، وتفرغ السلطان لمواجهة عدة جبهات داخلية وخارجية في سبيل السعي لضمان استقرار البلاد، مما سمح باستمرار هذه الهجومات، وتواصل الصراع إلى حين ..!

هوامش: الاستقصا لأخبار دول المغرب الأقصى للناصري
الحلل البهية في تاريخ ملوك الدولة العلوية للمشرفي
المغرب عبر التاريخ لابراهيم حركات

*أمين الفرع الإقليمي ن.م.ص.م.  ـ ثفـرو

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق
إغلاق