أخبارمنبر حر

” القيم ” بين العقل والدين

ذ. عبد الرحمان مجدوبي

عبد الرحمان المجدوبيكثيرا ما يستبعد الإنسان من خلده عند مناقشة مفهوم معين البيئة والتربة التي نما فيها هذا المفهوم وترعرع وحصل فيها شكله النهائي وخصائصه الكلية، ونفرق في هذا الشأن بين الفكر الإنساني المرتبط بنفسية وعقلية ومزاج من أنتجه وظروفه الاقتصادية ومنهجه في فهم الأشياء وتحليلها، وبين الوحي الرباني الذي لا تحده حدود الزمان والمكان المزود بآليات حافظة و ميكانزمات تجديدية مبثوثة في نصه تبعث فيه الحياة بدافع وجهد مجتهد يمتلك أدوات اللغة وعلم الأصول والناسخ والمنسوخ ومقاصد الشريعة .. هذا المشكل حسب رأينا كثيرا ما يخلق نقاشات عقيمة لا يمكن أن يحصل الإنسان من ورائها أي نتيجة في الوقت الذي قد يكون المناقش ملما بتلك الخصائص، لكنه يستبعدها لينتصر لرأيه ويدحض مناظريه ومنتقديه، مما يفرض نفسه عند التنقيب في مفهوم القيم الإنسانية، هل مصدرها إنساني –أي هل يمكن للعقل أن يكون حاسما في مسألة الحسن والقبيح –، أم ديني فطري– أي أن الوحي هو المحدد للحسن والقبيح ..؟

القيم لغة: مفردها قيمة، وهي من قام قوما وقياما وقومه: انتصب واقفا، وقوم المعوج: عدله وأزال عوجه، وقوم الشيء: قدر قيمته، وتعني القيمة: العدل والاعتدال، وما يعتمد عليه الأمر وينتظم به .. أما من الناحية الاصطلاحية فقد عرفها أهل الفكر الجمعي بأنها ” مجموعة من القوانين والمقاييس التي تنشأ في جماعةٍ ما، ويتخذون منها معايير للحكم على الأعمال والأفعال المادية والمعنوية، وتكون لها من القوة والتأثير على الجماعة، بحيث يصبح لها صفة الإلزام والضرورة والعمومية، وأي خروج عليها أو انحراف على اتجاهاتها يصبح خروجاً عن مبادئ الجماعة وأهدافها ومثلها العليا “، أما أهل الموقف البيولوجي فالقيمة عندهم هي ما ينبغي أن يكون، إذ يختلط الخير الخلقي بالخير البيولوجي، ويرى أهل الموقف النفسية أن القيمة هي ما كان يرضي رغبة أو يثير انفعالا، أما أهل الاقتصاد، فالطبقة عندهم هي مصدر القيمة، مما يجعل القيم مختلفا فيها حسب اختلاف الطبقات المكونة للمجتمع.

يمثل هؤلاء الاتجاه البراغماتي النفعي النسبي الحسي الواقعي، فليس عندهم غير الخبرة الحسية والحرية الفردية مصدرا للقيمة، فالأخلاق ظاهرة تاريخية و وليدة التنظيم الاقتصادي عند الماركسيين، والجنس مصدر كل القيم الإنسانية في مدرسة التحليل النفسي .. بينما يرى أهل الاتجاه المطلق، الممثلين لنظرية المثل التي تعتبر محور الفلسفة الأفلاطونية أن القيمة ثابتة يستمدها الإنسان من عالم السماء، وهي قيم مطلقة وكاملة يدركها الإنسان من خلال تعامله مع الأشياء ليتشكل الضمير الإنساني محددا الحسن والقبيح والصالح والطالح.

نسجل إذن من خلال هذه التوطئة صراع ثنائيات المادة والروح، الفكر المثالي والفكر الواقعي، العلاقة الافقية (الإنسان-الإنسان) والعلاقة العمودية (الله – الإنسان) .. ولا نرى من مصدر لهذا الصراع سوى تلك الحرب الضروس بين المؤسسة الدينية والمؤسسة العلمية المدجج بالانتهاكات التي ارتكبت في حق العلماء والأخطاء التي اكتشفها البحث التجريبي في بعض اليقينيات التي كانت تنبني عليها سلطة الرهبان.

أما مصطلح “الإنسانية” فأول من استعمله من الغربيين هو المؤرخ الألماني وعالم اللغة “جورج فويت” عام 1856، وذلك لوصف الحركة التي ازدهرت لإحياء التعليم الكلاسيكي أثناء فترة عصر النهضة في أوروبا وإحياء التعاليم الكلاسيكية في النهضة الإيطالية .. وكلمة إنساني “Humanist” مشتقة من المصطلح الإيطالي “umonista” ويعنى: المعلم أو الباحث العلمي في الأدب اليوناني، ثم من خلال الثورة الفرنسية، وبعدها بقليل في ألمانيا بفضل “الهيجليين اليساريين” بدأ مصطلح الإنسانية يشير إلى الفلسفات والأخلاق التي ترتبط بالإنسان دون الاهتمام بأي مفاهيم إلهية، ومع بداية الحركة الأخلاقية في ثلاثينات القرن العشرين أصبح مصطلح “الإنسانية” مرتبطاً بنحو متزايد مع الفلسفة الطبيعية، ومع العلمانية(1).

وجذور هذا المصطلح أي “الهيومانيزم” تعود إلى اليونان القديمة من خلال عبارة أو لفظة معينة هي “paelia Enkiklio” وتشير تلك اللفظة إلى “التعليم المتوازن ” وفكرة التعليم لدى اليونان podia”” تشير إلى نسق المعارف الإنسانية المتمثلة في الفنون الحرة السبعة: – القواعد اللغوية – البلاغة – المنطق – علم الأعداد – الفلك – التجانس الصوتي، كذلك تنطوي عبارة التعليم على فكرة أن الطبيعة الشخصية الإنسانية يمكن التأثير في نموها عن طريق التعليم، لتتبنى العلمانية الحديثة في النهاية فكرة الإنسانية من منظور بني على أنقاض هذا الصراع محملا بالعداوة والكراهية اتجاه رجال الدين الذين ارتكبوا أخطاء جسيمة في حق مؤسسة العلماء والمفكرين فكان رد فعلهم إقصاء كل ما هو ديني ميتافيزيقي لا يمكن الاحتكام فيه للعقل والمنطق.

الإنسانية إذن حسب منظريها هي موقف ديمقراطي وأخلاقي يؤكد على أن البشر لهم الحق في إعطاء الشكل والمعنى الذي يريدونه لحياتهم الخاصة وتقف على بناء مجتمع أكثر إنسانية من خلال نظام أخلاقي قائم على القيم الطبيعية والبشرية بروح العقل والتساؤل الحر، ومن خلال قدرات الإنسان الذاتية الغير مستمدة من العالم الميتافيزيقي الغير مدرك، وهي مناقضة للنزعة الإيمانية، حيث لا تقبل وجهات النظر الخارقة للواقع.

أما في الفكر الإسلامي فقد استحضرت القيم الدينية قيمتها باستحضار التعامل الفاضل مع الذات الإلهية، كما هو الأمر مع جميع الديانات قبلها، فبعض القيم كالكرم والصدق كانت تجسد نظاما قيميا أخلاقيا في فترة ما قبل الإسلام، وهي المتأصلة في الديانات السابقة- ولكن الإسلام ارتقى بها إلى منزلة جديدة فحملت قيمة نوعية مضافة، ومع نشاط حركة الانفتاح على الآخر، اعتمد المعتزلة العقل معيارا وحيدا لتمييز الحسن من القبيح واعتبر الإنسان هو المركز والفاعل المخير الذي يمتلك مفاتيح مصيره ويكتنز الحلول المفضية إلى تحقيق سعادته .. يرى المعتزلة إذن أن العقل وحده كاف للتمييز بين الحسن والقبيح والإشكال، هنا يبقى مرتبطا بتعريف ماهية العقل .. فهو يستعمل عادة لوصف القدرة على التمييز والإدراك واتخاذ القرار بالاستفادة من بيانات للدماغ البشري، وخاصة تلك الوظائف التي يكون فيها الإنسان واعيا بشكل شخصي مثل: الشخصية، التفكير، الجدل، الذاكرة، الذكاء، التحليل، مع العلم أن هذه القدرات المميزة للعقل تختلف من إنسان لآخر، مما يجعل الخلاف واردا و وحدة المصدر والمرجع ثابتة .. وبالتالي، التواضع والاتفاق والتعارف على قيم محددة مستحيلا.

يمكن الخروج إذن بعد البحث في جذور هذين المفهومين بالخلاصات التالية.

* لا يمكن الاختلاف على أن القيم فطرية في الإنسان .. ولكن، هذه الفطرة هي صنع الله ومنحته للإنسان كي يرتقي ويعتلي على البهيمية، فيكون إنسانا “فطرة الله التي فطر الناس عليها”(2) .. وبالتالي، فهذه القيم هي مكون ديني بامتياز حظي بالخلق الرباني.

* الإنسانية في حد ذاتها قيمة دينية تأسست بفضل التوجيه الرباني للأنبياء والرسل والصالحين وعلماء الأمة لاشتراك الناس في الأصل واختلافهم في المعتقد، ولهذا وجه الله تعالى خطابه للناس قائلا: ” يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم ..” 3، ففي ظل هذا التوجيه يعتبر الناس سواسية في تلقي الخطاب، والله تعالى هو من وضع معيار التفاضل فلم يترك المجال للأيديولوجيات التي تصنف الناس حسب نوعهم أو لونهم أو مستواهم الاجتماعي، ولا للقوانين والمقاييس التي تنشأ في جماعةٍ ما، وتتخذ منها معايير للحكم على الأعمال والأفعال المادية والمعنوية، فالإنسانية بهذا الطرح قيمة دينية محضة.

* تأسيس خطاب نوعي مستمد من الشرع في المجال الحقوقي يبين أن القيم الإنسانية منظومة مختلف فيها، ولا بد للشرع من توجيهها وضمان دستوريتها، ونورد في هذا السياق البنود الواردة في “وثيقة المدينة المنورة” التي أسست لسياسة تدبيرية تخاطب في الإنسان إنسانيته وكرامته، حيث ورد فيها:-“للمسلمين دينهم ولليهود دينهم”

* “وإن يثرب حرام جوفها لأهل هذه الصحيفة –المسلمين واليهود-“
-“وإنه من تبعنا من يهود، فإن له النصر والأسوة، غير مظلومين ولا متناصرين عليهم”.

* تأسيس خطاب قيمي إنساني يعلو على الجهويات التي تتعامل مع الإنسان بوصفه قيمة هوياتية جهوية؛ عرقية مناطقية ومذهبية، وليس مجرد قيمة إنسانية كبرى .. ويراعي في الناس إنسانيتهم، لكن بسلطة دينية تحاسب الأمير وتجعله غير مؤد لأمانته ومسؤوليته أمام الله سبحانه وتعالى إن فرط، نجد هذا تحديداً في نص (فكري – سياسي) ضمَّته رسالة ديوانية وجهها خليفة المسلمين الرابع الإمام علي بن أبي طالب (23 ق هــ – 40 هــ) في سنة 36/ 37 هجرية إلى عامله على مصر مالك بن الحارث الأشتر، حيث ورد في هذه الرسالة قول أمير المؤمنين علي رضي الله عنه:” و أشعر قلبك الرحمة للرعية، والمحبة لهم، و اللطف بهم، ولا تكونن عليهم سبعا ضاريا تغتنم أكلهم، فإنهم صنفان، إما أخ لك في الدين، و إما نظير لك في الخلق يفرط منهم الزلل و تعرض لهم العلل و يؤتى على أيديهم في العمد و الخطأ” .

* تصرفات الحيوان تتأسس في بعض الأحيان على قيم غريزية كقيم الرحمة والعطف والتعاون .. وهي قيم لم تدرس في مدرسة أو جامعة، ولم يتم التعارف عليها جمعيا، ولم تنتجها قوانين الطبقة، ولم يولدها عقل حيوان حر، فكيف تم إذن بث هذه القيم في جماعة الحيوان، يجيبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن هذا، حيث ورد في الحديث: « إِنَّ اللَّهَ خَلَقَ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ مِائَةَ رَحْمَةٍ كُلُّ رَحْمَةٍ طِبَاقَ مَا بَيْنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ فَجَعَلَ مِنْهَا في الأَرْضِ رَحْمَةً فَبِهَا تَعْطِفُ الْوَالِدَةُ عَلَى وَلَدِهَا وَالْوَحْشُ وَالطَّيْرُ بَعْضُهَا عَلَى بَعْضٍ، فَإِذَا كَانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ أَكْمَلَهَا بِهَذِهِ الرَّحْمَة -2753.« جَعَلَ اللَّهُ الرَّحْمَةَ مِائَةَ جُزْءٍ فَأَمْسَكَ عِنْدَهُ تِسْعَةً وَتِسْعِينَ وَأَنْزَلَ في الأَرْضِ جُزْءًا وَاحِدًا، فَمِنْ ذَلِكَ الْجُزْءِ تَتَرَاحَمُ الْخَلاَئِقُ حَتَّى تَرْفَعَ الدَّابَّةُ حَافِرَهَا عَنْ وَلَدِهَا خَشْيَةَ أَنْ تُصِيبَهُ” صحيح مسلم.

* قيم الديانات الوضعية والأيديولوجيات السائدة قيم نسبية ترتبط بالزمان والمكان والنفع الحافظ لأسسها لضمان استمراريتها وتدجين الأتباع وترويض الحاجين وبرمجة القواعد، مما يجعلها غير قابلة لأن يطلق عليها قيم إنسانية ولا قيم عقلية، فالأقرب أنها ذهنية منبعثة من مخيال رجال سادوا وحلموا بالبقاء والخلود (فقال أنا ربكم الأعلى) 24 النازعات.

يبقى إذن مدخل القيم مكسب في بحر لجي، وربح محض بين فكي أسد، تتهدده مخاطر المهندسين وتتنازعه شهوات وقلوب الطامعين .. لكن، تحت شعار واحد يحلم برد الاعتبار للأمة وشدها إلى أصولها الثابتة، لكن بنكهة دينية محضة أو برائحة -إنسانية كونية-، مما يؤجج الصراع بين مذهبين لكل واحد منهما مكاسبه الخاصة والعامة، فيبقى حقل التربية حقل تجريب وميدان لخصام خفي بين التجديد والحداثة.

1 – النزعة الإنسانية: الجذور والنشأة. -عماد الدين إبراهيم خليل

2 – الروم 30

3 – الحجرات 13

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق
إغلاق