أخبارمنبر حر

مجادلة علمانيين (تابع)

الإسلام

د. الصديق بزاوي

تمهيـــد

قبل الدخول في صلب موضوع (العلمانية والإسلام). والتطرق إلى الإشكالات والانتقادات التي يوجهها العلمانيون لمشروع الدولة الإسلامية وكذلك الرد عليها. نرى ضرورة وضع أرضية تقوم عليها هذه المجادلة، وتتعلق بتحديد ماهية مصطلح العلمانية، ثم توضيح موقف الإسلام منها.

مــاهـيــة العلمـانيـة :

يرى أحد الباحثين أن” أصل كلمة (علمانية) يوناني” لايكوس” ومعناها ما ينتمي إلى الشعب، إلى الأمة، وذلك مقابل ” كليروس” أي الكهنوت .. فاللايكي هو كل من ليس كهنوتيا، من لا ينتمي إلى رجال الكنيسة ..
ويرى البعض الآخر أن العلمانية تعني بالانجليزية (secularism) سيكيولارزم وهي إقصاء الدين والمعتقدات الدينية من أمور الحياة .. وهناك من يحدد مفهوم العلمانية في الحاضر بكونها مشتقة من العلم، وهذا المفهوم يوحي بكون العلمانية تعبر عن الاهتمام بالعلم والعلماء خلاف الأنظمة الأخرى، وذلك ليضفي عليها حلة تجذب إليها المنبهرين بالعلم بدعوى أن كل ما يخالف العلمانية هو جهل وخرافة وتخلف، ويصف البعض (العلمانية) بأنها الدعوة إلى الفصل بين الدين والسياسة، ويعتبر (لويس بقصر –المصري )أول من ترجم كلمة (Laïcité) الفرنسية إلى اللغة العربية في معجم فرنسي ـ عربي، طبع لأول مرة في مارس 1828، ثم تبنى هذا المصطلح مجمع اللغة العربية بالقاهرة في معجمه ( المعجم المحيط) سنة 1960 ويعرف معجم (روبير) (العلمانية) (بفتح العين) نسبة للعالم بكونها مفهوم سياسي يقتضي الفصل بين المجتمع المدني والمجتمع السياسي : الدولة لا تمارس أية سلطة دينية، والكنائس لا تمارس أية سلطة سياسية، وعرف (جورج هوليوك) الانجليزي العلمانية بأنها : ” الإيمان بإمكانية إصلاح حال الإنسان من خلال الطرق المادية دون التصدي لقضية الإيمان، سواء بالقبول أو بالرفض” .. وقد تم تقليص مصطلح (هوليوك )فأصبح يعني ” فصل الدين عن الدولة”، أي فصل العقائد الدينية عن رقعة الحياة العامة.
ويميز البعض بين علمانيتين : العلمانية الموسعة والعلمانية السياسية، ويتحدد معنى العلمانية الموسعة في النظر إلى كافة الظواهر الاجتماعية والتاريخية والإنسانية نظرة علمية في انفصال تام عن النظرة الدينية، وهذه هي العلمانية الثقافية .. أما العلمانية السياسية، فهي تجربة محدودة لأنها محاولة للحد من تأثير الدين على الأداء السياسي وعلى أداء السلطة، بهدف جعلها غير مقدسة حتى تصبح قابلة للحساب وللعقاب والجزاء.
وهناك من يلجأ إلى مفهوم (الزمنية)، ومفاده “الفصل بين شؤون الدنيا وشؤون الدين .. بين السلطة الدينية والسلطة السياسية .. أو إيداع السياسة في الحقل العمومي والدين في الفضاء الفردي، مع تواجد بعد جماعي من خلال سلطة دينية للوعظ والإرشاد .. “وحسب البعض الآخر، فإن مفهوم الزمنية يقضي بأن “الدين يكون مرجعية عقائدية ثقافية وتاريخية .. يمكن أن ينص عليه الدستور…”
ولعل تعريف العلمانية بكونها (فصل الدين عن الدولة) يعفينا عن متاهات البحث في التعاريف المختلفة التي وضعها المهتمون بالموضوع ويجنبنا الوقوع في دوغمائية لا ننتهي منها بنتيجة، وذلك نظرا لبساطته ووضوحه وكثرة تداوله في الاوساط العامة، وكذلك بالنظر إلى تطبيقاته العملية .
اما بالنسبة لما يعتقده البعض من كون العلمانية تعني فصل الدين عن السسياسة، فإن مثل هذا الفصل غير ممكن من الناحية العملية، وذلك لكونه مجرد فصل نظري لكون السياسة ترتبط بجميع المجالات ارتباطا عضويا. فالسياسة تشكل نشاطا اجتماعيا وهي تمد جذورها في المجتمع وتستلهم قيمه وعاداته ودينه وتنبع منه قبل ان تكون مرتبطة بمؤسسات الدولة. ولايمكن للسياسة ان تستمد قيمها من خارج تراث المجتمع وثقافته وعقائده. وليس من الممكن تصور سياسة في مجتمع تتناقض فيه القيم التي تستلهمها مع دين المجتمع وثقافته إلا في المجتمعات الانفصامية التي تعجز بالفعل عن تحقيق أي نوع من التأطير والتعامل السياسي والمدني .. إن الاعتقاد بأن من الممكن أو الضروري فك الارتباط بين الدين والسياسة عموما، مستحيل واقعيا ومنتج للعسف السياسي، ولا قيمة للديمقراطية إلا بقدر ما تتيح تطابق الأهداف والقيم التي تستلهمها السياسة الرسمية وسلطة الدولة، مع تلك التي يمارسها المجتمع. وبذلك تكون العلمانية مصدرا إضافيا لتنامي الديكتاتورية وتبريرها. ” ومن جهة أخرى نشير إلى أن الحياة وحدة لاتتجزء، وأن الفلسفات والمذاهب السياسية في التاريخ، كما في عصرنا، تتميز بالطابع الشمولي. فالاشتراكية مثلا، إيديولوجية تمتد الى الاقتصاد والتربية والتعليم والأدب والأخلاق وكل أوجه الحياة. ولا تقتصر على أساليب الحكم ومرجعياته. وإذا كان هذا هو شأن الفلسفات البشرية فلماذا نستبعده عن الشريعة الالهية.
أما ما يدعيه بعض المهتمين، كون العلمانية ما هي إلا اعتماد العلم، فإنه مجرد زعم لا يرتكز على أي أساس تاريخي أو إيديولوجي. فلو كان مفهوم العلمانية لا يعدو كونه اعتماد العلم لما أثار ما نلاحظه من نقاشات ومجادلات واعتراضات من طرف التيارات الدينية والإسلامية على الخصوص. و لكان الإسلام أكثر علمانية من غيره باعتباره يدعو بإلحاح إلى طلب العلم. بل ويجعله فريضة شرعية يجازا الساعون إليه، كما يؤكد ذلك الحديث الشريف “طلب العلم فريضة على كل مسلم ومسلمة.” ولا نكون مبالغين إذا اعتبرنا الأمة الإسلامية (أمة العلم) بحيث إن أول ما نزل منها هو “إقرأ”. وهو دعوة صريحة لا لبس فيها إلى طلب العلم ولو في الصين، ومن المهد إلى اللحد.
ونظرا للأهمية القصوى التي يوليها الإسلام للعلم والعلماء يرى البعض (3) أن الإسلام “دينا علمانيا للأسباب التالية :
1) النموذج الإسلامي قائم على العلمانية، بمعنى غياب الكهنوت. أوبعبارة أخرى، المؤسسات الدينية الوسيطة.
2) الأحكام الشرعية الخمسة (الواجب، المندوب، المحرم، المكروه والمباح) تعبر عن مستويات الفعل الإنساني الطبيعي وتصف أفعال الإنسان الطبيعي.
3) الفكر الإنساني العلماني الذي حول بؤرة الوجود من الإله إلى الإنسان وجد متخف في تراثنا القديم عقلا خالصا في علوم الحكمة وتجربة ذوقية في علوم التصوف وكسلوك علمي في أصول الفقه.”
وإذا كنا لا ننازع في كون الإسلام ليس كهنوتيا، بل هو دين للحياة في الأرض، بقدر ما هو دين للآخرة، فإننا لا نوافق على الطرح الذي يعتبر الإسلام علمانيا، لأنه مجرد محاولة لتحريف مفهوم العلمانية حتى يكون مقبولا من طرف المسلمين، ولكي يرضى بهم الأوروبيون. وإننا نعتقد أن مثل هذه التأويلات لا تخدم الإسلام في شيء، بل على العكس من ذلك، فهي تساهم في التشويش عليه، لأن هذا “الدين القيم ” ليس في حاجة إلى الدفاع عن كونه ليس علمانيا بالمفهوم المتعارف عليه. ونحن المسلمين لا نخجل أبدا من ذلك، بل لنا الفخر كل الفخر، في كون نظامنا السياسي نظام متميز، كما سنوضح لاحقا. وأن حقيقة العلمانية ما هي إلا دعوة صريحة إلى الاستهانة بالدين والابتعاد به عن واقع الحياة وفصله عنها بشكل عام، سواء بالنسبة للجماعة أو للفرد. فعلى المستوى الإيديولوجي تعتمد العلمانية على المبادئ الوضعية وترفض الدين كمرجع رئيسي للحياة وتنظر إليه على أنه شأن خاص لا يعدو أن يكون مجرد مجموعة من القيم الأخلاقية لا بأس من أن أن يتمسك المسلمون بها. وعلى المستوى السياسي تدعو إلى عدم تدخل الدين في تسيير الشأن العام واتخاذ مرجعية الحكم من المواثيق الدولية والتجارب الإنسانية، دون الأخذ بعين الاعتبار ما إذا كانت مطابقة للشرائع السماوية أم مخالفة لها. واعتماد الأجهزة الإدارية والمؤسسات القضائية على القوانين الوضعية دون غيرها. وكذلك تحرير المعتقدات الدينية من تدخل السلطات السياسية وحصر دور هذه الأخيرة في الأمور الحياتية المادية. أما مسألة اختلاف التعاريف فيرجع أساسا إلى اختلاف الانتماءات والمصالح بين المنظرين، حيث يتم تطويع مفهوم مصطلح العلمانية بشكل يتلاءم مع تلك الانتماءات والمصالح. فالمؤمنون الذين يشكلون أغلبية المجتمع قد يحاولون اختزال العلمانية في حرية الدين والعبادة مع إعطاء أهمية أقل لحرية تغيير الدين أو حرية الاعتقاد الديني. أما المؤمنون المنتمون للأقلية فقد يحاولون من ناحيتهم الدفاع عن المساواة بين الأديان وبين المنتمين لها، بينما اللادينيون فقد يدعون الى علمانية صارمة ترتكز أساسا على مقاومة تسلط الأديان وتأثيرها على كل جوانب الحياة الخاصة منها والعامة، وقد يعمل المتدبدبون بين الإيمان واللاإيمان على إيجاد تعاريف للعلمانية تتميز هي الأخرى بالتدبدب وعدم الوضوح وتبتعد كثيرا عن أصل المصطلح. وذلك كالقول بان إقامة دولة علمانية معناه ألا تنحاز هذه الدولة لأتباع أحد الأديان أو المذاهب الدينية المختلفة من مواطنيها. فهي مطالبة بالحياد في التعامل، كما أن سبب هذا الالتباس يرجع إلى اختلاف الممارسات الغربية التي أنتجت مصطلح العلمانية عن الفكر والممارسة السياسية العربية الاسلامية. فعندما نتأمل التجربة الغربية، فإننا نلمس وجود نماذج متعددة في تطبيقات العلمانية. فكل يقر العلمانية أو يكاد. إلا أن الجميع أحيانا يلامسون شرط فهمهم لها، إلى درجة أننا لا نعود ندرك متطلباتها الأساسية. ومن هنا انتشرت كثرة التعابير التي تجعل العلمانية نسبية بحجة تجديدها. فظهرت مفاهيم (العلمانية المتعددة) و(العلمانية المنفتحة) و (العلمانية التي يمكن التصويت عليها) و(العلمانية التعددية). وهذا يشكل في الحقيقة رفضا للعلمانية المتعارف عليها بطريقة ملتوية.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق
إغلاق