أخبارمنبر حر

مجادلة علمانيين ( تابع )

الدكتور : الصديق بزاوي

أما الحاكمية السياسية، فتكون لله تعالى أيضا وترتبط بالحاكمية القانونية، ارتباطا عضويا باعتبارها ضرورة لتنفيذ شريعة الله .. وأن الله هو الحاكم المطلق وليس للعباد حق المساءلة والنقاش.

ونعتقد أن الحاكمية تشكل قاعدة سياسية ينص عليها القرآن الكريم، ولا بد من اعتمادها في أي نظام أو فكر يتبنى المرجعية الإسلامية .. إلا أننا نختلف مع العلمانيين في تحديد مفهومها وطريقة تنزيلها.

نعم “إن الحكم إلا لله” .. ولا جدال في كون هذه القاعدة من صميم الشريعة الإسلامية .. وأن نكرانها يعتبر نكرانا لمعلوم من الدين .. والقرآن الكريم يشير إلى هذا الأمر العظيم في آيات عدة تدعو إلى تحكيم شرع الله سبحانه وتعالى .. غير أن الحاكمية لا تعني أكثر من كون الله عز وجل فرض على عباده مجموعة من الأحكام تؤطر سلوكاتهم الفردية والجماعية، سواء في مجال العبادات أوفي مجال التعاملات كالسياسة أو الاقتصاد أو غير ذلك من الأمور التي يتطلبها الاجتماع البشري .. وهذه الأحكام هي عبارة عن مبادئ عامة في غالب الأحيان تحتاج إلى تفصيل .. ويحتاج تنزيلها إلى جهد كبير، وهي التي تشكل ما يعرف بالمرجعية الإسلامية المطلوبة في كل نظام إسلامي، وهي مرجعية عليا لا تعلو عليها أي مرجعية أخرى .. ويترتب عن moujadala-2هذه المسألة أن كل تصرف أو قانون سياسي أو غيره يجب أن تحكمه الشريعة الإلهية وتهيمن عليه .. وبهذا المفهوم، فإن الحكم لا يكون إلا لله العلي القدير .. وبمعنى آخر، فإن الحاكم مهما علا شأنه ومهما كانت رتبته في هرم السلطة يجب أن يحكم وفق ما أراده الله سبحانه (أي حسب مشيئته) .. وذلك مصداقا لقوله سبحانه :” وما كان لمؤمن ومؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمرا أن تكون لهم الخيرة من أمرهم . (14)

فإذا كانت جميع قوانين وسلوكات كل دول العالم تحكمه الدساتير التي يضعها عباد الله والتي تشكل أسمى القوانين في هذه الدول، فإن هذه الأخيرة يجب هي الأخرى أن تحكمها الشريعة التي وضعها خالق عباد الله بالنسبة للأنظمة الإسلامية .. وهكذا، وبكل بساطة، يمكن فهم معنى (الحاكمية) وتحديد وظيفتها في السياسة الشرعية .. أما المفهوم الذي يتبناه العلماني، فلا يعدو أن يكون مجرد تعسف في التاويل .

إن الدولة التي يطمح المسلمون إلى تحقيقها دولة مدنية بكل المقاييس، فهي دولة فصل السلط والتعددية السياسية .. ودولة الاستحقاقات والحريات .. ودولة الحوار والسلم .. وكل ما في الأمر هو أن هذا النظام السياسي المنشود يتم في إطار الإحكام الأصولية للشريعة الإسلامية السمحة ومقاصدها الكبرى، كما سيأتي توضيحه في الفقرات اللاحقة، ولا أحد من فقهاء الإسلام وعلمائه يجادل في كون الحاكمية تكون لله وحده لا شريك له.

ورغم إجماع الفقهاء على أن نصوص الشريعة المتكاملة تدعو إلى وجوب تحكيم شرع الله وتتوعد من يخالف ذلك الأمر بالخسران، كما تأمره بعدم التعقيب على الأحكام الشرعية، وذلك ما تشير إليه الآية الكريمة التي جاء فيها :”والله يحكم لامعقب لحكمه…” (15 ). ورغم وضوح هذه الآية القرآنية وغيرها، فإنها تتعرض لسوء الفهم والتنزيل المشوه على أرض الواقع، وقد يرجع أصل هذا الخطأ في الفهم إلى تأثير مفاهيم غير إسلامية على فكر الغرباء عن الإسلام وانتقال ذلك إلى فكر المتعلمين .. ومن هذه المفاهيم الخاطئة مقولات الإيديولوجية السلطانية الفارسية التي تقوم على الممائلة بين الحاكم الطاغية المستبد وبين الإله … وفي بعض الأحيان المطابقة بينهما باتخاذ الحاكم إلها.”

لا يتوقف العلماني عن البحث عما من شأنه أن يعزز موقفه القاضي بكون اعتماد الإسلام مرجعية للحكم يؤدي حتما إلى قيام دولة دينية، وهاهو يستشهد على ذلك بكون بعض السلاطين المسلمين اتخذوا لأنفسهم ألقابا تدل على أنهم يحكمون في الأرض نيابة عن الله، وأن بعض التجارب المعاصرة للنظام الإسلامي في إيران، فشلت في إقامة دولة حديثة، وقد جاء ذلك في المداخلة الآتية :

“… هذا التلبيس ساد على مر التاريخ الإسلامي، حيث نصب الحكام أنفسهم نواب الله وحاكمين بأمره وحملوا ألقابا ترفعهم إلى مراتب النبوة : المعتصم بالله .. المنتصر بالله .. الناصر لدين الله. “

“فلنكن واقعيين وتتكلم التجارب التي ظهرت في هذا العصر، المتجلية في بعض محاولات اعتماد المرجعية الإسلامية والتي يمكن الجزم عن عدم صلاحيتها لإقامة دولة حديثة ديمقراطية، ولنا في تجربة إيران مثال لهذه الدول الإسلامية والتي تتضمن مبادئ دينية كالحاكمية.”

لقد كان من عادة العرب منذ الجاهلية، حمل ألقاب تضاف إلى أسمائهم .. وأن هذه الأخيرة كانت ترمز عادة إلى بعض الصفات التي كانوا يفتخرون بها كالكرم والشجاعة والنسب، وبعد الإسلام ظهرت ألقاب جديدة توحي بقوة الإيمان والتقرب إلى الله .. وقد اختص بها السلاطين وعلى الخصوص العباسيون، ولا أحد يستطيع أن ينكر كون العصر العباسي وخاصة الأول، يشكل أوج الخلافة الإسلامية وتفوقها على سائر الأمم التي عاصرتها، سواء من حيث التنظيم أو الموارد المالية أو القوة العسكرية أو الغزارة العلمية .. وعلى العكس من ذلك، كانت أوربا في هذه الفترة التاريخية، قد دخلت في مرحلة من الانحطاط امتدت حتى أواخر القرن السادس عشر، لكن الغريب في الأمر، هو أن يتنكر العلماني المسلم لهذه الحقيقة الساطعة، بدلا من أن يعتز بها أشد الاعتزاز .. والأغرب من ذلك، هو أن يستنتج من مجرد ألقاب (المعتصم بالله والمنتصر بالله والناصر لدين الله ) كون أصحابها يقصدون بها ارتفاعهم إلى مراتب النبوة رغم أنها لا تدل إلا على قوة الإيمان بالله والتفاني في نصرته، أو مجرد ادعاء ذلك على الأكثر .

يتبع

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق
إغلاق