أخبارمجتمع

الوجه الآخر لمفهوم التطوع ..!

ذ. عبد الرحمان مجدوبي

عبد الرحمان المجدوبييعتبر التطوع ظاهرة اجتماعية تتضمن جهودا إنسانية تبذل من أفراد المجتمع بصورة فردية أو جماعية، ويقوم بصفة أساسية على الرغبة والدافع الذاتي، سواء كان الهدف شعوريا أو لا شعوريا، مما يجعله مؤسسا على الطواعية والاختيار والانخراط والتكلف1، والتطوع من فعل:تطوَّعَ / تطوَّعَ بـ يتطوَّع، تطوُّعًا، فهو مُتطوِّع، والمفعول مُتطوَّعٌ به، وتَطَوَّعَ بِمَالِهِ لِمُسَاعَدَةِ الجَمْعِيَّةِ : أَعْطَاهُ عَنْ طَوَاعِيَةٍ وَاخْتِيَارٍ، تَبَرَّعَ، “فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْراً فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ “2. وتَطَوَّعَ لِلْجُنْدِيَّةِ مِنْ أَجْلِ الدِّفَاعِ عَنْ حَوْزَةِ الوَطَنِ: تَجَنَّدَ عَنْ طَوَاعِيَةٍ، اِنْخَرَطَ فِيهَا، تَطَوَّعَ الرَّجُلُ: لاَنَ، تَكَلَّفَ الطَّاعَةَ.

وفي ثقافتنا الإسلامية يرتكز هذا المفهوم على نواة صلبة من عقيدة الإيمان بالله واليوم الآخر إذ يتأسس على سند الأخوة، إيمانية كانت أو إنسانية، كما هو الأمر في مسالة المؤاخاة بين المهاجرين والأنصار، وإيواء أبي أيوب الأنصاري للرسول صلى الله عليه وسلم، وتضحية أم سليم بابنها أنس لخدمة رسول الله، ومداواة رفيدة الأنصارية ونسيبة بنت كعب للجرحى في المعارك وسقايتهما العطشى، واهتمام الفتى النصراني بأمر محمد عليه السلام بعد إرهابه من طرف سكان الطائف ..!

لكن يبقى هذا المفهوم مؤهلا لمزيد من البحث والتنقيب في ثناياه وسراديبه المظلمة وكواليسه التي تتأسس على ما هو اجتماعي وثقافي وسياسي ونفسي بشكل أكبر وأشمل يجعل الباعث الديني في بعض الأحيان إن لم نقل في أغلبها اليوم غير ذي أهمية، فهو لا يتجاوز نسبة 50 % حسب بعض الإحصائيات3. إذ ثقافة التطوع لا يمكن أن تنعزل عن باقي السياقات الشاهدة على تطور مجتمع أو تخلفه، نؤكد هذه الحقيقة باستقرائنا لنماذج وحالات جعلت من التطوع قنطرة صلبة ومتينة لتحقيق ما عجزت عن تحقيقه جهارا، سواء بالانخراط في العمل الجمعوي أو السياسي أو الانخراط في منظمات دولية أو جهوية أو محلية، بل حتى في تسيير المرافق والمؤسسات الصحية والدينية –المساجد-والاجتماعية- دور الإيواء…- والتربوية، إن سلمنا بهذه الحقيقة، فإننا سوف لن نخرج عن حيز الحقيقة التي سطرت على إثرها وزارة التنمية الاجتماعية والأسرة والتضامن مشروع قانون التطوع لضبط هذا المجال ومحاولة جعله ميدانا يمكن الاستثمار فيه في مجال القيم والحكم المحققة للتنمية المستدامة.
التطوع إذن كفكرة يبقى مرتبطا بجل شرائح المجتمع، سواء كان أصحابها فقراء أو أغنياء، ذكورا أو إناثا، شبابا أو شيابا، لكن بانفصامه عن منظومة القيم الأخلاقية وارتباطه بشكل أكبر بالجانب السيكولوجي في بيئة يسيطر عليها الفكر النفعي والثقافة الانتهازية لا يعطي التطوع نتائجه ولا يحقق مخرجاته، مما يجعل فعل التطوع واجهة منمقة ولباسا مزركشا يخفي وراءه طموحات ترتبط بتحقيق الذات والرقي في سلم المهمات التي تتحول في كثير من الأحيان إلى مسؤوليات تؤهل أصحابها للنقاش والتفاوض والتشاور والتمثيل على أعلى مستوى إلى حد يجعل الإنسان ناسيا الهدف الأكبر والمغزى الأهم من التطوع، بل راسما لخطط وتكتيكات تبوؤه مكانة فضلى قد ترشحه لما رسمه بداية.

ما يجعلني أعتقد بشدة صحة ما أقول هو اختباء اختياراتنا الحاسمة والخالقة للفروق والمؤسسة للتدافع وراء مفهوم التطوع واستهلاك تفاصيله كواجهة تغرد بالبعد الإنساني والإيماني والهوياتي ونسجل ارتباط المفهوم ب:

-البعد الأيديولوجي: كما هو شأن التطوع في بعض الجمعيات والمنظمات التربوية التي تهيئ الناشئة لتكون كوادر الأحزاب وتتحمل المسؤوليات فيها، وكما هو شأن البعثات الأجنبية التي تتدرع بالبعد الإنساني، بينما تجد همها الوحيد والأوحد هو نشر الأفكار وزرعها وتحصيل بحوث في ميدان علم الاجتماع –المعرفة سلطة- أو تيسير سبل الاستعمار لا في شكله العسكري .. ولكن، بالقضاء على المناعة الثقافية، والاستلاب الحضاري وخلق نواة حاملة للمشروع توكل لها مهمة الدفاع عنه ومتابعته.

-البعد النفسي: فالحاجة هي المحرك والباعث الأساسي لكل نشاط، فلا نتصور إقدام الإنسان على مزاولة نشاط معين دون حاجة في نفسه، ففي الوقت الذي يؤكد فيه البعض محورية البعد الديني الإيماني، نؤكد نحن على محورية تحقيق الذات وتحصيل شعور الانتماء للجماعة والتمرد على الانطوائية التي قد تكون وراثة و واجبا في البيت وداخل الأسرة ..!

-البعد السياسي: فإذا كانت الحملات الانتخابية لها تاريخ محدد فبعض المنتخبين يزاولون حملاتهم طيلة السنة مستندين إلى دراع البعد الإنساني، في الوقت الذي يقول البعض أنها تدخل في صلب مهامهم، بينما هي في الحقيقة خدمات تقدم خارج الإطار القانوني، بل تستهدف الأفراد بدل استهدافها لتحقيق التنمية الجماعية واحترامها لبنود البرنامج الانتخابي، من قبيل تيسير الحصول على الشواهد الإدارية ورخص الماء والكهرباء لدور البناء العشوائي وإنبات محلات تجارية لفئات معينة في سويقات غير مؤهلة لهذه الوظيفة، وتكوين جيوش من الأتباع بمِنَح يُيَسر أمرها صندوق التنمية البشرية.

-التدرب على امتلاك الكفاية والاحتكاك بكوادر تسيير الشأن العام لتحصيل فرص تساعد على امتهان مهنة أو الترقي في مجال العمل.

-خدمة مشروع يتعلق بالعرق أو النوع أو الطبقة أو العشيرة أو السلالة، إذ يصبح التطوع هنا رسالة تستحق التضحية ونكران الذات لتحصيل منافع مادية أو معنوية، أو للفوز في معركة التدافع مع المخالف المغاير.

تبقى إذن ثقافة التطوع شاهدة على تخلف مجتمع أو تقدمه، واستمدادها من البعد الديني لا يمكن أن يتم في معزل عن استمداد باقي القيم المحققة للنهضة والتغيير، وفي وضعنا الحالي المفتقر للشبكة القيمية المؤهلة للأفراد والجماعات، يمكن القول بهزالة الباعث الديني في حث الناس على تبني ثقافة التطوع الملونة بلون الإخلاص واحتسابها صدقة جارية تنفع صاحبها في الآخرة أكثر مما تنفعه في الدنيا.

لسان العرب 2 معجم المعاني الجامع/ البقرة: الآية: 184 3 رغم ما يمكن أن يقال حول دقة الإحصائيات في مجال العلوم الإنسانية

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق
إغلاق