
*العيرج إبراهيم
في زوايا الوطن المنسية، حيث تتراكم ذكريات رصاصات الماضي وهمسات الرياح المحملة بغبار المعارك، تقبع أسر شهداء حرب الصحراء .. أعضاؤها ليسوا أمواتًا بالمعنى المتعارف عليه، بل أرواح معلقة بين عالمين، تتجرع مرارة الفقد يوميًا، وتستنشق عبق الغياب في كل زفير
تمر الأيام ثقيلة، كساعات رملية لا تنتهي، تحمل معها صورًا باهتة لأبطال رحلوا تاركين خلفهم فراغًا موحشًا .. أمهات ثكالى تحدقن في صور شبان ضحوا بأزهار أعمارهم، وعيون زوجات ترمق الأفق بحثًا عن طيف لن يعود .. أطفال كبروا يتامى، يتساءلون عن ملامح أب لم تحتضنهم يداه إلا في أحلامهم ..؟
تتوالى السنوات، وتتلاشى الوعود الرسمية كفقاعات صابون في مهب الريح .. التعليمات الملكية، التي صدرت لإنصاف هذه الأسر وتضميد جراحها، بقيت حبيسة الأدراج، مجرد وثائق مؤثثة لمكاتب مسؤولين مثقلة باللامبالاة .. وآليات الدعم معطلة، تاركة هذه الأسر تواجه مصيرها المحتوم في صمت مطبق
في كل صباح، تستيقظ هذه الأسر على وقع سكرات الموت البطيء .. موت الأمل، وموت الثقة، وموت الإحساس بالانتماء .. يشعرون بأنهم منسيون، مهمشون، وكأن دماء أبنائهم الزكية لم تروِ أرض الوطن، بل تبخرت في صحراء الإهمال
تتحول البيوت إلى مزارات صامتة، تحتضن أثاثًا يحمل بصمات الغائبين، وملابس تحتفظ بعطرهم الخافت .. تتجمد اللحظات السعيدة في الذاكرة كصور فوتوغرافية قديمة، بينما يتدفق الحاضر ببطء محموم، مثقلًا بالحنين والوجع .. الأحاديث قليلة، والنظرات شاردة، كل كلمة تثير لوعة، وكل ذكرى تجدد الجرح .. يحاولون عبثًا ترميم شظايا قلوبهم المنكسرة .. لكن، الغياب يبقى ثقبًا أسودا يبتلع كل محاولاتهم
إنها مأساة صامتة، تتكرر فصولها يوميًا في بيوت هؤلاء الأبطال .. صرخة مكتومة في وجه النسيان، ودعوة خافتة إلى ضمير الوطن .. فهل ستظل أرواح الشهداء وأسرهم تعاني سكرات الموت اليومية في غياب أي التفاتة حقيقية ..؟ أم أن هناك بصيص أمل يلوح في الأفق، ينذر بفجر جديد يمحو ظلال الغياب ويحقق العدل المنتظر
* ابن شهيد