أخبارمنبر حر

الدعم العمومي للصحافة بين التعتيم والتساؤلات .. هل باتت بطاقة الصحافة وسيلة للربح دون رقابة ..؟

حسن المولوع

يتصاعد الغموض حول كيفية تدبير الدعم العمومي المخصص لقطاع الصحافة والنشر، بعدما تحوّل من إجراء استثنائي إبان جائحة كوفيد-19 إلى سياسة دائمة تمولها خزينة الدولة بأموال ضخمة، دون أن تواكبها الشفافية المفترضة في صرف المال العام .. فقد أضحى هذا الدعم الذي يُضخ عبر ميزانية وزارة الشباب والثقافة والتواصل محور تساؤلات حادة حول المستفيدين الحقيقيين منه، والمعايير المعتمدة في توزيعه، والأثر الفعلي له على جودة الإعلام وظروف العاملين فيه .. خصوصا، في ظل تراجع المعطيات المتاحة للرأي العام واختفاء التقارير التي كانت توضح تفاصيل العملية

تحوّل الإجراء المؤقت الذي انطلق سنة 2020 بمبلغ 164 مليون درهم لمساندة المقاولات الإعلامية الخاصة، إلى سياسة اعتيادية تكرّسها الميزانيات السنوية، حيث تم صرف 161 مليون درهم في 2021، و167 مليون درهم في 2022، ثم قفز المبلغ إلى 314 مليون درهم في 2023، وبلغ 325 مليون درهم في 2024 .. فهذه الأرقام، التي توضح استمرارية وسخاء التمويل، تثير استغراب المتابعين بسبب غياب تقارير دقيقة تبين كيف تم صرف هذه الأموال، ومن استفاد منها، وفي أي سياق مهني وقانوني

ورغم تسجيل أكثر من 2300 مستفيد في سنة 2024 وحدها، فإن الغموض يلف الأسماء، وعدد المقاولات، وأساس التوزيع، بل إن الحكومة والمجلس الوطني للصحافة لم ينشرا إلى اليوم لوائح مفصلة بأسماء المؤسسات أو الصحافيين المعنيين، كما لم تُصدر الوزارة المعنية أو المجلس تقارير سنوية كانت تُعد في السابق، تشمل تقييم دعم الدولة للإعلام وتطور مداخيله وهيكلته .. فهذا التعتيم يتناقض مع مقتضيات الفصل 27 من الدستور المغربي، الذي يكرّس الحق في الحصول على المعلومة، ويضع على عاتق الإدارات واجب تمكين المواطنين من الوصول إلى المعلومات التي تهم الشأن العام .. خصوصا، في ما يتعلق بالمال العمومي

أمام هذا التراجع، تُطرح تساؤلات مقلقة حول مدى احترام مقتضيات الدستور، خاصة الفصل 36 الذي يرفض كل أشكال الريع واستغلال النفوذ، والفصل 154 الذي يربط عمل المرافق العمومية بقيم الشفافية والمساءلة

فهل يجوز أن يُصرف ما يفوق مليارا ونصف مليار درهم خلال أقل من خمس سنوات دون مراقبة مستقلة ولا نشر علني للمعطيات ..؟

وهل من المقبول أن يُستخدم مبرر حماية المعطيات الشخصية لإخفاء أسماء مؤسسات اقتصادية يُفترض أنها خضعت لعملية انتقاء وفق معايير مضبوطة ..؟

في ظل غياب المعلومة وتراجع التقارير، يغدو من المشروع التساؤل حول مدى التزام المؤسسات المعنية بقواعد الحكامة الجيدة .. فالمجلس الوطني للصحافة، الذي يشرف على منح بطاقة الصحافة المهنية، اكتفى منذ سنة 2021 بالإعلان عن مشاورات لم تسفر عن أي إجراء عملي لنشر قوائم المستفيدين، فيما ظلت وزارة الشباب والثقافة والتواصل صامتة، دون تقديم أي توضيحات رسمية أو نشر لمعطيات مالية وإدارية مفصلة عن منظومة الدعم

لعل أحد أبرز المؤشرات التي تفرض التوقف عندها بجدية هو تطور عدد المستفيدين من الدعم العمومي للقطاع خلال الأربع سنوات الأخيرة، حيث انتقل العدد من 2199 مستفيدا عام 2021، وهو الرقم ذاته المسجل سنة 2022، ليعرف قفزة نوعية ببلوغ 2272 مستفيدا سنة 2023، ثم يصل إلى 2309 مستفيدا سنة 2024 .. فهذه الأرقام تُفسَّر نظريا، إما بزيادة الطلب على الدعم، أو بارتفاع عدد الحاصلين على بطاقة الصحافة المهنية من المجلس الوطني للصحافة، وهو ما يُعيد النقاش إلى نقطة بالغة الأهمية:

من يستحق الحصول على هذه البطاقة ..؟

وهل تخضع فعلا لمعايير مهنية دقيقة ..؟

وأين تنتهي المهنية ويبدأ التساهل في منحها ..؟

إن تزايد عدد المستفيدين دون توفير معطيات مفصلة حول كيفية توزيع البطاقات المهنية يفتح الباب أمام فرضية الاستعمال غير الرشيد لهذه الوثيقة، التي تُعد الأساس في الحصول على الدعم العمومي، مما يستدعي فتح تحقيق دقيق في طرق منحها، ومدى تطابق ملفات طالبيها مع الشروط القانونية المنصوص عليها في النظام الأساسي للصحافيين المهنيين

وفي هذا السياق، فإن الفصل 31 من الدستور الذي ينص على وجوب تعبئة كل الوسائل لتيسير استفادة المواطنات والمواطنين من الخدمات العمومية ذات الجودة، يقابل بواجب الرقابة والمساءلة كلما تعلق الأمر بوسيلة قد تُستغل للوصول إلى تمويل عمومي

فهل فعلا تم التحقق من أن جميع الحاصلين على هذه البطاقات يمارسون فعليا العمل الصحفي داخل مؤسسات محترمة ..؟

أم أن البطاقة أصبحت مجرد وسيلة للحصول على نصيب من الدعم، دون أن يُقابل ذلك أي إنتاج مهني ملموس ..؟

المجلس الوطني للصحافة يتحمل مسؤولية جسيمة في هذا الباب، باعتباره الجهة المخولة قانونا بمنح هذه البطاقات، كما أن وزارة الشباب والثقافة والتواصل مطالَبة، دستوريا وأخلاقيا، بربط تمويلها العمومي بتدقيق فعلي وشامل في شروط منح البطاقة المهنية، لأنها لم تعد مجرد وثيقة تعريفية، بل صارت مفتاحا ماليا في منظومة مشوبة بالغموض .. وبهذا، فإن الهيئة الوطنية للنزاهة والوقاية من الرشوة ومحاربتها، وكذلك المجلس الأعلى للحسابات، مطالبان بفتح تحقيق مستعجل في الموضوع، يشمل آليات منح البطاقة، وتداخلها مع الدعم العمومي، ومدى انضباط الجهات المانحة لقواعد الموضوعية والشفافية

إذا كانت هناك إرادة حقيقية لإصلاح الإعلام ومحاربة الريع وتحقيق العدالة بين المقاولات الصحفية، فإن البداية يجب أن تكون بكشف شامل لكل المعطيات المرتبطة بالدعم العمومي، سواء تعلق الأمر بالأرقام أو الأسماء أو شروط الاستفادة أو أثرها الفعلي على المشهد الإعلامي

إن الصمت المتواصل، وتراجع الشفافية، وعدم احترام الدستور، كلها مؤشرات على أزمة عميقة لا يمكن حلها بتعديلات قانونية جديدة، بل تقتضي أولا محاسبة شفافة وفتح تحقيق رقابي مستقل يحدد المسؤوليات ويفرض إعمال مبدأ ربط المسؤولية بالمحاسبة

لا يمكن للإعلام أن يكون فاعلا في التنمية والديمقراطية إذا استمر في تلقي المال العمومي بلا شروط واضحة، وبلا أثر ملموس على جودة العمل الصحفي، أو على ظروف المهنيين داخله .. فالمطلوب اليوم ليس فقط تقنين الدعم، بل إخضاعه لرقابة حقيقية وتدقيق مفصل، يُنشر للرأي العام ويُبنى عليه أي إصلاح مرتقب، وإلا فإن هذه الأموال لن تكون سوى وسيلة لإعادة إنتاج نفس الممارسات التي أضعفت الثقة في الإعلام وأفقدته جزءا من استقلاليته ومصداقيته

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق
إغلاق