للمستقلة رأي

عن هوامش العقل المغربي التي لم تولد من فراغ

لا يزال هواة الحفر في المرجعيات التاريخية اللغوية والحضارية من بعض المحسوبين على النخبة التي تتصدر النقاشات الصاخبة يراهنون على تلغيم القضايا التي يطرحونها للنقاش بالقنابل الانشطارية، التي لا تساعد على الوعي بما توجد عليه هذه المرجعيات التاريخية واللغوية والحضارية، وفضح المسكوت عن خلفياتها وتداعياتها، مما يجعل عمليات الحفر التي يقومون بها مجرد عمليات تشويش للقضايا التي اختاروها للدراسة والنقد .. وبالتالي، مجرد مقاربات للالتفاف حول الحقائق المغيبة في هذه المرجعيات، وهذا ما ينطبق على الموضوع الذي طرحه عبد المجيد بن شاوية .. “نقاش على ضوء هوامش العقل المغربي” الذي نطرحه في سياق احترام جريدتنا المستقلة بريس للرأي، حتى وإن تجاوز الخط التحريري للجريدة، ونسف هامش الحرية المتاح في مشهدنا الإعلامي والصحفي.
فهل ما تناوله صاحب المقال عن هوامش العقل المغربي تتيح الاقتراب من هذا العقل المغربي ..؟ وهل ما تتضمنه هذه الهوامش في العقل المغربي تعبر عن توجهات ومسلمات، أم مجرد تخيلات وفرضيات غبر منتظمة ..؟ وأخيرا هل هذا العقل المغربي المحدد للوعي الإجماعي الذي يتحدث عنه صاحب المقال منتوج قيمي ومعرفي وتأملي نشأ من الفراغ ..؟
إن هذا العقل المغربي والهوامش التي يبحث فيها صاحب المقال ليس سوى العقل الجمعي السائد الذي يتمثل في النية الفوقية الإيديولوجية التي يعتمدها من يتحكمون في نمط العيش اليومي السائد، الذي يغرف منه هؤلاء الباحثون المهووسون بإصدار الأحكام الجاهزة والتعريفات والتصنيفات التي قد لاتنسجم مع المسلمات التي توجد في هذه المعلومات المبحوث عنها، ناهيك عن أن مضمون ما يوجد في هذا العقل الجمعي يشكل في مجموعه الثقافة المعلبة السائدة التي لا يمكن إلغاء وجودها أو تجاوزها باستثناء مناقشتها، وتحيين القابل لتصريفه إن كانت صلاحية استخدامه لا تزال ممكنة أو الانقلاب الجذري ضده.
إذن، سيكون النقاش مع الواقع الذي يحمل هذا العقل الجمعي ببنيته الإيديولوجية التي توظفها هذه العقول الاجتماعية التي تعيش في نمط عيشه، وإن كانت هناك انتقادات وطعون لهذا العقل المغربي، فيجب أن توجه لهذه البنية الإيديولوجية التي توجد فيه، فهو مجرد وعاء بيولوجي تحركه المنظومة الخلوية العصبية عبر الطاقة الفسفورية، وحالة الوعي اليقظ المسلح بالمعرفة والمنهج النقدي والعلمي هي التي تتيح اختيار أطر ومفاهيم ومقولات هذه البنية الإيديولوجية التي يحملها، وليس بالإمكان، البحث في الجدوى والجودة التي تتميز بها، إلا حينما تكون بصدد الحكم عليها وعلى دورها في تعليب وزيف الوعي الاجتماعي، التي تعيش تحت قبضته في الواقع الاجتماعي والاقتصادي والسياسي السائد.
إذن، عقلك المغربي مرتبط بالعقل الجمعي، ومنه وعنه تتحدد طبيعة وظيفته، وحركة العقل الذي يبحث في هذه الهوامش التي يقوم عليها العقل المغربي الذي لا يختلف عن بقية عقول المجتمع الإنساني في أي مكان من العالم الذي نعيش فيه .. وبالتالي، فالإشكال ليس مع هذا العقل كوعاء، بل مع صانعي المحاليل والنفايات والمعتقدات والمطلقات، الذين حقنوه بها المالكون للسلطة والثروة في مجتمعك، وهؤلاء في المؤسسات المعنية بالتربية والتوجيه والتأهيل هم المعنيون بمدى صلاحية هذه الهوامش في عقلك المغربي.
قد تكون من هواة الحفر عن المسكوت عنه الملموس في دماغ الإنسان في الجانب الأيسر الذي يتلقى كل المعارف والقيم، والمسؤول عن الانفعال العقلي والنفسي، ويظل جانبه الأيمن مسؤولا عن الانفعال المهاراتي الحسي، وفي المنطقة اليسرى يشتغل العقل الباطني بواسطة الحمولات التي يملكها مع المؤثرات الخارجية، التي تتحول إلى أنماط تواصل عاقلة ومنطقية بواسطة العقل الواعي بما يجب أن يكون عليه تصرفه اتجاه هذه المؤثرات والمنبهات الخارجية، وعبر شبكة النخاع الشوكي التي تعرف بموضوعات هذه المؤثرات وتقوم بتصريفها بأنماط الاستجابة والتواصل التي تلائمها.
إن هذا العقل البشري، هو الذي يحمله العقل المغربي في كل فرد من مجتمعنا، بينما العقل الجمعي هو مجموعة القيم والآراء والمسلمات والتصورات والتعلمات التي نوظفها في عقلنا البشري البيولوجي، التي نحرص على تلاؤمها مع المحيط المجتمعي الذي ننتمي إليه، وهو العقل المختلف بالضرورة البيولوجية مع نموذج العقل البشري البيولوجي، الذي تحرص في هذا الجزء الأيسر من دماغك الحامل للتركة التي يشتغل عليها عقلك المغربي، إلا أنك لا تملك الحرية في عقلك الجمعي الذي يعتمد عليه عقلك المغربي في المادة الخام والطاقة البيولوجية التي يعمل بها عقلك، وحتى إن تعرفت على نصف العملة المفقودة في نظرك الذي يتكون من الهوامش التي يجب أن يتسلح بها عقلك في محاربته للتركة المكرسة للاستغلال والفساد والاستبداد أو التخلف فستكون مغامرتك ميؤوس منها ما دامت لا تتجاوز هذه الهوامش التي يحملها هذا العقل الجمعي السائد، ولتكن ثوريا أو تقدميا أو حداثيا أو ليبراليا أو جذريا في اختيارات وعيك، أما أن تعتبر قناعاتك الخاصة هي لبنة المعرفة والوعي المناهض المطلوب، فهذا يتوقف على مساهمة العقول المغربية التي تحمل نفس الوعي السليم والثوري والمضاد في الواقع المجتمعي الذي يسيطر عليه هذا العقل الجمعي السائد، الذي يمكن الكشف عن متناقضاته وأوهامه والأهداف المرسومة إليه من المجتمع.
نعم، لخلاصتك من أن هذا العقل المغربي مطالب بالثورة والتغيير، لكن ذلك لا يحدث من خلاله، بل من الفئات الاجتماعية المقهورة بإيديولوجيته المكرسة للعلاقات الاجتماعية التي يعود إليها هذا القهر المادي والفكري الذي يعانون منه، فالعقول المحسوبة على الأقلية الميسورة لا تحركها الكوابيس والإكراهات التي يواجهها المقهورون .. وبالتالي، ليس لها مصلحة في الانقلاب على ثقافتها التي تصون مصالحها ونفوذها، مما يعني بالضرورة أن العقل الجمعي بما يتوفر عليه من سلطات من مضمون إيديولوجية من يتحكمون في نمط عيش المجتمع هي المعنية بهذا النقاش الذي لا يجب أن تعمم فيه وجهة نظرك على الجميع، فالمتحكمون في العلاقات الاجتماعية السائدة هم الذين يقفون وراء سطحية العقل المغربي المحسوب على مقهوري المجتمع، وهم الذين يتطلعون إلى آخر ما وصل إلى مجتمع المعرفة والعلم والتقنية حتى لا تهدد مصالحهم الطبقية.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق
إغلاق