نافذة على الثقافة و الفن

الشعراء الذين لا يتبعهم الغاوون

اليوم الأول، من المعرض الدولي للنشر وللكتاب بالدار البيضاء، خلال الدورة 21، وفي لقاء مفتوح مع ثلاث شعراء شباب، تم تقديم نماذج من إبداعهم الشعري في الدواوين التي صدرت لهم .. كان شعرا باردا في القاعة التي احتضنت هذه القراءات الشعرية، حيث لم تثر القصائد فضول الحضور، ولم تكسر موضوعاتها حالة الصمت، اللهم تمكين هذه الذوات الشعرية التي تعيش نفيها الإرادي في مجتمعها، الذي لم ينفعل مع الحمولات والمعاني التي جاءت في أدبيات قصائدها المختارة، مما يفضي إلى أنهم مجرد مغتربون يبحثون عن الشرعية لمواقفهم الانهزامية والعبثية في شعرهم الذي لا روح فيه، ولا أثر لقضايا مجتمعهم التي تفرض نفسها في معيشه اليومي .. وبالتالي، فهم شعراء لعوالمهم الشخصية، حقا إنه الشعر الذي يمثل بالنسبة إليهم مغامرة إبداعية خاصة لتصريف ما في ذواتهم الثقافية المغتربة، التي نعتقد أنه بالإمكان التحرر من ضغوط المعيش اليومي الذي يشتركون فيه مع باقي فئات مجتمعهم المحرومة من كل شيء، بما فيها هذه المغامرة الإبداعية الشعرية التي ليست سوى صدى لوعهم الشقي والحالم، الذي يحاول كل واحد منهم الرقص بأبيات قصيدته خارج الواقع الذي يحاولون التحرر منه عبر هذه التجربة الشعرية .. هكذا، عبرت القصائد المختارة لهؤلاء الشعراء عن الاغتراب والنفي الإرادي الذي يعانون منه في مجتمعهم، الذي تحكمه منظومة أكبر من حالات التمرد التي يحاولون تجسيدها في إبداعهم الشعري، الذي يلتقطون منه ما يعتقدون أنه يناسبهم ويحميهم من الآخرين، الذين اعتبرهم أحد هؤلاء الشعراء مجرد عرض لوحات تشكيلية لا أحد يفهم طلاسم رموزها إلا هؤلاء الذين يعتقدون أنهم أبدعوا شعرا، لكن لأنفسهم التي لم تتحرر من مفعول ثقافة “الهمبركر” القادمة من خارج حدود مجتمعهم، الذي يترقب ما يساعده على التخلص من رتابة المعيش اليومي، وثقافة التبشير بعذاب القبور والاستهلاك الإباحي المفرط لإشباع جميع الرغبات، وضرورة الانخراط السريع في المراجعة والتوبة قبل الرحيل ووداع هذا العالم بالنسبة للذين فقدوا الإحساس بالحياة.
ما يحز في نفوسنا كعشاق للإبداع الشعري والثقافي على حد سواء، هو الاعتراف الإرادي للشعراء بالغربة والقطيعة مع مجتمعهم، مما يدل على أننا فعلا في الواقع الذي لم يعد فيه الشعراء الذين ” يتبعهم الغاوون” من فرط الغربة والقلق والخوف الذي يتحملونه في شعرهم.
ما الجديد إذن، في هذه الكتابة الشعرية التي كانت معبرة بصدق عن العوالم الشخصية لشعرائها الذين انفصلوا عن هموم مجتمعهم، كما عبروا عن ذلك في ردودهم عن أسئلة الحضور الباحث عن الأجوبة في ثنايا الأبيات الشعرية التي قدمت له، فكانت تجسيدا حيا للانفصال والانقطاع الذي يعيشه المثقفون في أبراجهم العاجية، والذين يبررون ذلك بغياب القراء الغاوون، وتراجع قيمة الثقافة في المجتمع، دون أن يطرحوا خلفيات ذلك بالوضوح المطلوب منهم في هذا الزمن الأغبر الرديء، الذي تلعب فيه الثقافة الجاهزة للتسويق حسب العلامة التجارية فقط ..؟ وما عسانا التعبير عنه من هؤلاء الحالمين الجدد الباحثين عن من يقرأ منتوجهم الإبداعي الفاقد للإحساس بالآخرين، والمعبر بصدق عن بؤس الثقافة وزيفها الملموس، الذي لا يتعدى ممالك ذواتهم الشخصية بامتياز، حيث كانت الذات البيولوجية المعبرة عن هذا الشذوذ في الإبداع الثقافي صريحة في إجاباتها عن دهشة مغامرة المخاض الشعري الذي لم يتجاوز مشاعرهم القلقة وأحكامهم المحنطة، وتصوراتهم الحالمة والمحبطة عن الكينونة المنفصلة عن محيطها الاجتماعي والاقتصادي والسياسي، والمروضة حسب سقف هامش الحرية المتاحة في زمن سيطرة محاكم التفتيش عن ما تختزنه العقول، حول ما يمكن أن تفكر فيه وتنشغل به.
إذن، حضر الشعر في جمالية صياغته اللغوية والأدبية، وغابت الذات المنفعلة والمتمردة على سجانها الواقعي والافتراض .. إنها سلسلة أبيات نثرية عن مواضيع تخص العوالم الشخصية لأصحابها، باستثناء شاعر مراكش، الذي خرج عن الصف ملوحا بفأسه التي وضعها للنبش في القضايا التي تحتاج إلى موقف منه اتجاهها، حيث حضرت المرأة والقانون والقيم والمطالب المعلقة، وما يجب أن يكون عليه الإبداع الشعري لتحريك قطع السطرنج في لعبة الوجود الفردي والمجمعي، الذي فقد كل أدوات التفاعل والتواصل مع واقعه الاجتماعي ..!
للـه السؤال يا شعراء النفي الإرادي في زمن الموت الثقافي، ولكم يا معشر الفقراء في الوطن والعالم أن تتأكدوا من أن طليعتكم المشاغبة والمتمردة انتهت صلاحية استهلاك منتوجها الإبداعي، الذي لم يعد يختلف عن أي بضاعة في سوق الاستهلاك الثقافي السائد والنخبوي

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق
إغلاق