أخبارمنبر حر

مجادلة علمانيين (تــابـع)

 

 

الإسلام

د. الصديق بزاوي

ظهور العلمانية وتسربها إلى المجتمعات المسلمة .

 

ظهور العلمانية

 

ظهرت العلمانية كإيديولوجية في وربا خلال أوائل عصر النهضة في القرن الثامن عشر، وذلك كأحد إفرازات الوضع الاجتماعي ـ السياسي القائم آنذاك. والذي تميز بشكل عام بعرقلة النمو الاقتصادي وحرية التجارة بواسطة قوانين جائرة وسياسة التمييز بين أفراد المجتمع ،في إطار نظام إقطاعي كنيسي ظالم ومستبد. ومن أهم خصائص تلك المرحلة التاريخية بالنسبة لأوربا، والتي يصطلح عليها عادة بالقرون الوسطى، استبداد رجال الدين (الاكليروس) وقوة نفوذ الكنيسة وتحكمها في جميع مجالات الحياة الروحية والمادية واستغلال سلطتهم لإطلاق العنان لنزواتهم وشهواتهم تحت قناع القداسة التي يضفونها على أشخاصهم وتصرفاتهم، بزعمهم يتصرفون وفق إرادة إلهية لايزيغ عنها إلا ملحد وجاحد، مستغلين في ذلك سذاجة المجتمع وعدم وعيه ونقص معرفته للتعاليم المسحية ،نظرا لعدم نهله من منابعها الأصلية، لكونها ظلت محتكرة من طرف الكهنة ومكتوبة باللغة اللاتينية ،وهي اللغة التي لم يكن يعرفها سوى الخاصة. وفي ظل هذا الوضع العام ساد نفوذ ( رجال الدين) فحللوا وحرموا كيفما شاءوا ،من غير سند شرعي سوى تنصيبهم من طرف المجامع المقدسة. وأصبحت تعليماتهم لا تقبل النقاش حتى ولو كانت حقائق كونية وعلمية. وقد استغل هؤلاء الفرص لجمع الأموال وتكديس الثروات مستعملين جميع أنواع التحايل والخداع. فباعوا (صكوك الغفران) وفرضوا قيودا على الأنشطة التجارية ليجعلوها مقتصرة على طبقة معينة. فقد جاء في إنجيل ( متى):”لا تقتنوا ذهبا ولا فضة ولا نحاسا في مناطقكم .” وجاء في إنجيل ( مرقص) :” مرور جمل بثقب إبرة أيسر من أن يدخل غني إلى ملكوت الله”.وفي ظل هذه الأجواء تشكلت في أوروبا طبقة إقطاعية شكل رجال الدين ( الاكليروس) جزءا مهما منها. فهذا (ديرفلدا) يمتلك خمسة عشرة الف قصر صغير. وهدا(الكوني فيتور) سيد لعشرين ومائة ألف من أرقاء الأرض ومالك لمساحات شاسعة من الأراضي الزراعية، باعتبارها أوقافا تصرف عائداتها على سكان الأديرة و بناء الكنائس وتجهيز الحروب الصليبية، زيادة على فرض العشور على الفلاحين والحرفيين، والهبات والعطايا والسخرة .

إنه لمن الطبيعي جدا أن تضيق المجتمعات الأوروبية من هذا الفهم المشوه للدين المسيحي، وتقوم احتجاجات وثورات إصلاحية من داخل الكنيسة نفسها. ومن أهمها الثورة البروتيستانتية التي تزعمها ( مارتن لوتر. وأن تظهر مفاهيم جديدة واتجاهات فكرية وإيديولوجية تعمل على إبعاد الدين -على الأقل- من شؤون الدنيا ،وحصره في شؤون العقيدة والحياة الروحية. ومثل هذه النظرة الجديدة هي التي اصطلح عليها ب(العلمانية). وقد وجدت هذه النظرية في أوروبا المقهورة تربة خصبة وتعطشا جماهيريا وبد يلا سياسيا عقدت عليه الآمال في اتقادها من الاستبداد والظلم والتضييق على الحرية العقائدية والاقتصادية وانعدام المساواة وغير ذلك من الأمراض الاجتماعية. وهكذا نبتت العلمانية وانتشرت بسرعة فائقة . فتم فصل الدين عن الدنيا تحت شعار” دع ما لله لله وما لقيصر لقيصر.” ونصت الدساتير على اللائيكية وأصبحت السلطة الدينية محصورة في الكنائس تحت إشراف ( الفاتكان).وهكذا ظهرت قوانين العلمنة الكبرى في سنوات 1880 و1886، تتعلق بالأماكن العامة والمقابر والمدارس…ومن بين هذه القوانين ( قانون غوبليه و فتري) الذي حرر المدرسة العمومية من كل وصاية دينية ووضع أسس التعليم العلماني. و صدر قانون فصل الكنيسة عن الدولة .

ورغم وجود عوامل موضوعية تبرر اعتماد الإيديولوجية العلمانية في أوروبا. فإن هذه الأخيرة بعد فترة وجيزة من تطبيق هذه النظرية ،أصبحت تنادي بما اصطلح عليه “الهوية الوطنية”التي لاتنسلخ عن الهوية المسيحية، كما حدث في (فرنسا – ساركوزي)، التي تنص دساتيرها على حرية العقيدة والفكر والحرية الفردية بصفة عامة وعلى حياد الدولة . وذلك من أجل محاربة ظاهرة انتشار الديانة الإسلامية .كما يتم تنظيم دروس دينية مسيحية في مدارس رسمية تمولها الدولة في مقاطعات منها(الألزاس).وأن نظام (الوئام) يقدم امتيازات للديانات الثلاث ، الكاثوليكية والبروتيستانتية واليهودية. وعلى الخصوص المساعدات لرجال الدين المقتطعة من الأموال العامة. وفي إسبانيا طورت الملكة (إيزابيلا القشتالية) وكذلك (فرناندو) و(لأراكوني) “الكاتوليكية الوطنية” إلى حدها الأقصى. وتم اضطهاد كل من لم يعتنق تلقائيا هذا العامل المتعلق بالهوية الوطنية المفترضة، و على الأخص المسلمين واليهود. وفي أنجلترا يوجد بها قانون يطلق عليه (قانون التسوية) ينص على ضرورة أن يكون الملك أو الملكة من رعايا الكنيسة. و يحظر على غير البروتستانت دخول مجالس اللوردات. إن هذه السلوكات وغيرها تحدث في اوروبا العلمانية حتى النخاع ،والتي تنص دساتيرها بشكل صريح على حياد الدولة .وتمنع حتى أبسط ما يرمزإلى أي ديانة . الشيء الذي يجعل المتتبع لسياسات الانظمة العلمانية يتساءل عن مصير هذا الحياد المقرردستوريا، والذي أصبح مهددا بذريعة حماية الهوية الجماعية ومحاربة التطرف الإسلامي . أفلا يعتبر هذا السلوك تكريسا لوصاية الجماعة على حق الإختلاف المقرر للفرد،وخرقا سافرا لأبسط حقوق الإنسان؟

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق
إغلاق