مجتمع

الأسرة في المجتمع الغربي ليست نموذجا للتقليد

al-gharb

على ضوء ما أصبح عليه المجتمع الغربي من تحرر اقتصادي وسياسي وثقافي، والالتزام بالقيم الكونية لحقوق الإنسان، كان من المتوقع أن تكون لذلك آثارا إيجابية على الأسرة باعتبارها نواته الأساسية، وفي المنحى الذي تستطيع فيه الأسرة ممارسة وظائفها بصورة صحيحة وسليمة وأكثر تحضرا وتطورا، لكن الذي يحدث هو تأثر هذه الأسرة بما هو سلبي ومنحرف من الظواهر المرضية التي رافقت مراحل هذا التمرد المجتمعي الطبقي، مما جعلها أولى المؤسسات الاجتماعية التي تؤدي فاتورة هذه التحولات التي تعرض لها المجتمع الغربي.

لم يتمكن طرفا هذه الأسرة في المجتمع الغربي من العيش بأمان وسلام، حيث أدت القيم الاستهلاكية التي راكمها هذا المجتمع في ظل النظام الرأسمالي في مراحل تطوره التاريخي إلى أن تتعرض هذه الأسرة إلى الاضطراب والتفكك والإفلاس رغم الارتباط المقدس الذي يجمع الزوجين، وإضفاء الموافقة المدنية القانونية عليها التي يحاول الغرب ترسيمها على حساب الموافقة الدينية، وبالرغم من ذلك، لا احترام للزوجين لضغوط الحياة الزوجية، حيث يتم تجاوزها في ظل ضغوط القيم الاستهلاكية الإباحية التي تسمح لهما بإشباع رغباتهما، تبعا للضغوط التي يجدان نفسيهما ضحيتها، وقد أصبح الجنوح إلى التطرف هائلا في صفوف الطبقة المهيمنة التي يحركها حب الاستطلاع والاستهلاك الإباحي إلى البحث عن المتعة والسعادة واللذة خارج الأسرة التي أصبحت تفتقر إلى قوة المشاعر والأخلاق في العلاقات بين أفرادها، مما وسع مساحة التوتر في العلاقات بين الزوجين، وبين الأطفال الذين يعيش جلهم مبكرا في مؤسسات الحضانة والرعاية المدرسية.

طبعا، المجتمع الطبقي معرض في صيرورته إلى هذا الانحلال والإفلاس في تعامل فئاته مع القيم والقوانين، وحسب ضغوط الواقع الاقتصادي للأفراد، وأصبح معها البناء الأسري الاجتماعي متأثرا بشروط هذا الواقع الذي فرض قوانينه وقيمه منذ بداية تقييم العمل الذي أصبح بموجبه وجود طبقتين متنافستين في وجودهما الاجتماعي، جعلت الملكية الخاصة مسيطرة لمن يمتلكون، والفقر والبؤس للمنتمين للطبقة المأجورة والمقهورة، حيث احتضن النظام الرأسمالي بقوة تطبيقات هذا الانقسام الطبقي الذي أصبحت بموجبه الطبقة المنتجة من العمال والفلاحين وصغار التجار والموظفين والعاطلين عرضة للاستغلال الطبقي من قبل الطبقة الرأسمالية، التي حولت من يوجدون في قاعدة المجتمع إلى مسخرين لخدماتها وإشباع رغباتها، مما جعلهم مستهدفين بأمراض ومساوئ هذا القهر الطبقي التي تجلت في أوضاعهم الاجتماعية والاقتصادية من خلال الظواهر التي تكشف عن بؤسهم الاجتماعي، كالدعارة والبطالة وتعاطي المخدرات والإجرام والتفكك العائلي، من خلال ارتفاع حالات الطلاق وانحراف الأحداث والشذوذ الجنسي.

اتضاح هذه المساوئ في واقع الأسرة الغربية بدأ يتفاقم مع تطور نمط الإنتاج الرأسمالي الذي دفعت قوانينه إلى تفاقم هذه الآفات الاجتماعية، مع توالي تطور هذا الإنتاج في هذا النظام الرأسمالي الصناعي ثم إلى الرأسمالي الليبرالي الحداثي، الذي تطورت فيه المنظومة الحقوقية بعد الحربين العالميتين، وأصبح هناك تواجدا واضحا نحو هذه المنظومة .. خصوصا، في مرحلة نشأة النظام الرأسمالي الأولي الذي تحكمت طبيعته المهنية في مفاصله ورسخت قيمها الاستهلاكية التي أضعفت استمرار التضامن والتعاون والاندماج بين أعضاء الأسرة الذين أصبحت توجههم العلاقات والمبادئ النفعية التي جاء بها هذا النظام، خاصة بعد تحوله إلى مجتمع تجاري وصناعي الذي انهارت فيه القيمة الحضارية لكل ما قامت عليه المؤسسات الاجتماعية والثقافية والسياسية والدينية، وتحولت فيه وظائف هذه المؤسسات إلى ما يخدم استمرار هذا النمط الإنتاجي الطبقي كسلع خاضعة لقانون الطلب والعرض وللإباحية الإنتاجية والاستهلاكية.

برزت انعكاسات هذا التحول في تبخر مفعول القيم الأخلاقية والتربوية والثقافية والدينية، التي تراعي في بناء الأسرة التي حكمت عليها قوانين هذا المجتمع الرأسمالي، بأن يكون الإيمان والالتزام بها تبعا لمدى وزن ودور الأفراد داخل هذه الأسرة التي لم تعد تربطهم داخلها القيم التي تحفظ استقرار وصحة هذه الأسرة، وهذا ما ينعكس في نسب الطلاق والتفكك العائلي وبرودة العواطف التي تجمع بين أعضائها، وإلى عجزها في تأمين الأمن والحب والتطور الطبيعي للأطفال ، إلى جانب الرمي بالأقارب من كبار السن في دور العجزة، وبحث الزوجين عن الملاذات الآمنة خارج البيت العائلي.

إن المجتمع الغربي اليوم، بالرغم من تطوره الصناعي والتقني والعلمي في إطار النظام الرأسمالي لم يحالفه الحظ في الارتقاء بأسرته على إيقاع هذا التحول الاقتصادي الإنتاجي والاستهلاكي الذي يعيش فيه الآن .. ونعتقد في المستقلة بريس، أن طبيعة هذا النمط الإنتاجي الغربي الذي بنى قوته في مغامرات استثماراته الصناعية والتجارية والمالية منذ بداية الاكتشافات الجغرافية التي تحولت إلى الاكتشافات الاستعمارية التي عبثت فيها شركاته، واحتكاراته لاقتصاديات الشعوب وحضاراتها هو النهج الذي تتحكم في ميول الأفراد في المجتمع الغربي، وفي طبيعة تواصلهم الاستعماري مع الشعوب التي خضعت لهم في أمريكا وإفريقيا وآسيا إلى اليوم، وستظل الفاتورة السلبية التي تدفعها الأسرة الغربية مغايرة لما ينتج عن العلاقات الاجتماعية التي يقوم عليها هذا النظام الرأسمالي الطبقي الذي لا يخدم أهدافها الإنسانية والحضارية

إننا في المستقلة بريس، لسان حال النقابة المستقلة للصحافيين المغاربة، نعتبر الحرص على أسرتنا الشرقية المغربية تحدي حضاري ومصيري، تقتضي الضرورة حمايته من كافة الأطراف المعنية بالتربية والتأهيل الاجتماعي، وتعبئة كل الوسائل لتحصين الأسرة وحماية وظائفها حتى لا تتأثر بما تعيش فيه الأسرة الغربية من اغتراب وعبثية اليوم.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق
إغلاق