من أجل تحقيق الاكتفاء الذاتي في وارداتنا الاستهلاكية الغذائية
من المفارقات الاقتصادية المثيرة، عجز الاقتصاد الوطني في قطاع الفلاحة على تحقيق الاكتفاء الذاتي الذي يتم تأمينه عبر الواردات بالعملة الصعبة، مع أن هذا القطاع يمكنه أن يضمن الاكتفاء الذاتي من هذه المواد الفلاحية كالحبوب والسكر واللحوم بجميع أنواعها والخضر والفواكه، حيث يمتلك الوطن الأرض الصالحة للنشاط الزراعي والرعوي واليد العاملة المؤهلة لكل الأنشطة الفلاحية، هذه المؤهلات التي يمكن مضاعفتها في الأنشطة الزراعية والرعوية المؤثرة في الاستهلاك الوطني من المنتوجات الزراعية، وإضافة إلى طول الشواطئ التي تختزن في المتوسط والأطلسي ثروات سمكية يمكن أن تؤمن حاجات الاستهلاك الداخلي، بدل أن يتم نهبها من طرف دول الجوار الأوربي مقابل تعويضات هزيلة.
إن الاكتفاء الذاتي في الفلاحة يمكن تحقيقه بتعبئة جميع الموارد والوسائل المتاحة في المجال، ووجود الإرادة السياسية من قبل الحكومة في تحقيق هذا الاكتفاء، وامتلاك المعرفة والخبرة المساعدة على ذلك، وانخراط المسؤولين في الفلاحة على جميع الأصعدة، وهذا ما لا يمكن الوصول إليه في ظل التخلف الراهن.
إن كل المؤشرات تؤكد إمكانيات القطاع الفلاحي الهائلة على تحقيق الاكتفاء الذاتي، وتقليص تكاليف الاستيراد من هذه المواد الاستهلاكية اليومية، وتخفيض تأثيرها على القوة الشرائية لعموم المواطنين، التي لم تعد قادرة على ضمان استهلاكها في الحدود المقبولة وفق المعدلات العالمية في الاستهلاك الفردي من هذه المواد الفلاحية، التي يمكن إنتاجها في الوطن، حيث أن ما نتوفر عليه من أراضي صالحة للزراعة أو التي يمكن استصلاحها واستغلالها يتجاوز 12 مليون ه. كما أن الرقعة السقوية يمكن أن تصل إلى ثلاثة ملايين، ويمكن رفع الاستغلال السنوي في المنتوجات الفلاحية التي تؤمن الاستهلاك الداخلي في السكر والزيوت والخضر، كما أن تنوع التضاريس يساعد على امتداد زراعة الأشجار المثمرة بجميع أنواعها، وعن طريق تشجيع الاستثمار في قطاع الزراعة الموجهة للصناعات التمويلية الغذائية يمكن رفع الطاقة التشغيلية، وبنفس المواصفات يستطيع قطاع الصيد البحري وتربية الماشية الوصول إلى الاكتفاء الذاتي وتجاوزه إلى التصدير بفضل جودة الأرض والشواطئ وتنوع المناخ وإمكانية تحديث فرص الاستثمار المدرة للأرباح، كما أن نجاح سياسة السدود أمن حاجات المغرب من مياه الشرب والسقي وإنتاج الكهرباء، وهذه السياسة التي يمكن أن تجعل من المغرب مركزا لجذب الاستثمارات الأجنبية في الفلاحة والصناعة المرتبطة بها.
إن ما يعيق تطور الاقتصاد الفلاحي هو غياب التخطيط الاستراتيجي في هذا القطاع، الذي كان حتى عهد قريب أكبر شغل في الاقتصاد الوطني، والرهان الخاطئ في الاعتماد على السياسة الحكومية، الخاضعة لمن يخططون ويوجهون الاقتصاد الوطني في أن يظل على ما هو عليه من تخلف موضوعي وتبعية في القطاعات التي يمكن أن يتحرر فيها نهائيا من هذه الإكراهات المزمنة، التي تحول دون تطوره في القطاعات التي يمكن أن تحقق الاكتفاء الذاتي للقطاع الفلاحي عن طريق سياسة استصلاح الأراضي، والسقي المنظم والتشغيل المكثف لتحقيق المعدلات التي تفوق حاجيات الاستهلاك الذاتي في المنتوجات الفلاحية الغذائية والتحول فيها إلى دولة مصدرة، سواء في الزراعات المعاشية أو التسويقية.
ونعتقد في النقابة المستقلة للصحافيين المغاربة، أن هذا الأمر يمكن الحسم فيه من خلال توجيه جميع الجهود الفردية والجماعية، كالثروة السمكية التي تنهبها الدول التي ترتبط معنا باتفاقيات مقابل استيرادها الذي ترتفع ضغوطه المالية تبعا لتقلب أسعارها في الأسواق الدولية، إلى جانب إمكانية رفع الطاقة التشغيلية في الفلاحة والحد من نسب البطالة في الوسط القروي، الذي يضطر العاطلون فيه إلى الهجرة نحو المدن، كما أن قوة الاستثمار في الفلاحة تساعد على تقليص فجوة العالم القروي مع المدن في البنية التحتية والتحول إلى مراكز جذب للاستثمار الذي يؤمن الحاجات الاستهلاكية والتصديرية كذلك، وبالنظر إلى الخريطة الجغرافية يمكن تحويل الوطن إلى مراكز متخصصة في المنتوجات الفلاحية، سواء الموجهة للاكتفاء الذاتي أو للتسويق الخارجي .. وبالتالي، أن هذا الاقتصاد يمكن أن يتحول إلى قاطرة للاقتصاد الوطني في نسب مساهمته في الإنتاج والتشغيل والتسويق إذا ما اشتغلت الأطراف المعنية على تعبئة كل الإمكانيات والموارد المتاحة في البلد.
ماذا ينقصنا في اقتصادنا الوطني لتحقيق الطفرة في القطاع الفلاحي ..؟ وهل نمتلك التخطيط التنموي في هذا النشاط الفلاحي بمجاليه الزراعي والرعوي ..؟ وهل هناك إرادة للوصول إلى ذلك ما دامت شروط النجاح في تحقيق الثورة الفلاحية متوفرة ..؟
لن نختم هذا المقال دون أن نذكر كافة الجهات والأطراف المتدخلة حكوميا وبرلمانيا بما يمكن أن يعجل بالوصول إلى الاكتفاء الذاتي في القطاع الفلاحي، بدل الرهان على تأمين الحاجيات من الواردات التي لا تتحكم في أسعارها، والتي يمكن أن يتحول الرهان عليها إلى سبب مباشر في إخفاقنا في تحقيق الإقلاع الفلاحي الذي يمتلك شروطه ووسائل الوصول إليه، والذي لا تشتغل عليه للأسف الحكومة والأحزاب والنقابات والمجتمع المدني أثناء صياغة البرامج الانتخابية الجماعية والبرلمانية حتى الآن.