منبر حر

مجادلة علمانيين (تابـع)

الإسلام

الدولة الإسلامية دولة لاهوتية

الدكتور – الصديق بزاوي

إن الإسلام يرفض الهرمية الدينية التي تقوم عليها دولة الكنيسة والتي تحتكر السلطة داخل طبقة الكهنة، ويجعل الولوج إلى الفقه الإسلامي حقا لجميع الناس وفرضا على المسلمين .. وأنه سبحانه يعد المتفقهين في الدين بالخير، وذلك ما يشير إليه أحد أحاديث رسول الله عليه السلام، والذي جاء فيه ” من أرادا لله به خيرا يفقهه في الدين.” وأن كل شخص يستطيع أن يبلغ المراتب العليا من مراتب العلم من غيراعتبار لمركزه الاجتماعي أوانتمائه الطبقي، بل بفضل كده واجتهاده فقط المعتمد على ملكاته الفكرية ورصيده المعرفي وعلى قوة إيمانه .. وليس على “اتصال لاهوتي”، كما يدعي العلماني .. وأن هذا العلم الديني الإسلامي كل لايتجزأ ففيه الديني العقدي والتعبدي، وفيه المدني التعاملي، وقد عاش علماء المسلمين فقهاء شرعيين ودعاة مرشدين وفرسان مجاهدين وأطباء معالجين وقادة حاكمين .. وما أكثر محاولات الضغط التي مورست على أهل العلم والذكر وإكراههم على تزكية الانحرافات السياسية التي باءت بالفشل .. ورغم ضخامة الاغراءات وعنف الإكراهات فما بدلوا تبديلا رضي الله عنهم .

فالتعلم ايها العلماني أن الإسلام نفسه يمنع قيام الدولة الإسلامية ” اللاهوتية،” وذلك لأن نبيه صلى الله عليه وسلم بعث إلى البشرية جمعاء ” العالمين “، وأنه خاتم النبيئين وآخرهم .. وكل شخص يأتي بعده ويدعي العصمة والنبوة يعتبر كافرا ومرتدا، ويفهم من هذه الحقيقة أنه لا يجوز الاعتقاد بإمكانية أي إنسان مهما بلغ شأنه تلقي أوامر من الله سبحانه أو النيابة عنه في الأرض .

إن ما تمت الإشارة إليه يكفي لذوي النيات الحسنة والفكر النزيه والمستقل أن يقروا بأنه لا وجود للدولة الدينية اللاهوتية اللتي تعمل مختبرات “باترونات” العلمانيين على إقحامها في التاريخ السياسي للمسلمين، إلا في مخيلات هؤلاء المسوقين لهذه البضاعة البائرة .. ويا حبذا لو رجع هؤلاء (الإمعة) إلى هذا التاريخ وقارنوه بمثيله لدى الأوربيين الذين عاصروهم لانبهروا بمواقف وسلوك الخلفاء الراشدين والتابعين االمتقين، وبالقيم الإسلامية العالمية الرفيعة التي انبهر بها خصوم الإسلام أنفسهم من رومان وبيزنطيين وبوديين ومجوس وهندوس، وذلك كما رجعوا إلى التاريخ السياسي لأوربا الملطخ بدماء الشعوب المستضعفة والمستعبدة وانبهروا به أشد الانبهار .

إن الدولة التي يتحدث عنها العلمانيون ويسمونها بالدولة الدينية أو (التيوقراطية) لم توجد ولن توجد في الأمة التي تخضع للشريعة الإسلامية .. شريعة تجعل من التفكير والتعقل والتدبر فريضة شرعية، ولا توجد إلا في مخيلة العلمانيين الذين يجهلون الكثير عن الإسلام والذين يختلط في أذهانهم واقع المسيحيين بواقع المسلمين، والذين ينطلقون من بض الانحرافات التي وقعت عبر تاريخ الأمة الإسلامية، أو من مفاهيم شاذة نادى بها بعض الأصوليين المتطرفين السذج، حسب ما وصل إلينا من معلومات عبر أقلام وأبواق مشكوك في موضوعيتها، ليشوهوا الإسلام والمسلمين وينفرون الناس عن البديل الحضاري المرتقب .

وليس من الغريب أن يوجه أشباه العلمانيين نبالهم بشكل معمم للإسلاميين، وربما لكونهم لا يملكون الجراة لتوجيهها إلى الإسلام نفسه بشكل مباشر، فإذا كان الإسلاميون يدعون إلى إقامة دولة الشر يعة، فإن الإسلام نفسه يلزم بذلك، وقد أوضحنا سابقا الطابع الشمولي لهذا الدين الحنيف .

إن تكتيكات محاربة الإسلام تنوعت منذ بداية الصراع ما بين المسلمين وخصومهم .. وأن هذا الصراع انطلق مع انطلاق الدعوة الإسلامية، ثم تطور إلى حروب صليبية، ثم غزو تبشيري وعسكريى واقتصادي وفكري وثقافي .. ومع انطلاق الصحوة الإسلامية اشتدت هذه المواجهة، وهاهي اليوم تبلغ ذروتها في ظل الحراك السياسي الذي تعرفه الشعوب العربية والذي اصطلح عليه “الربيع العربي “، ومن أهم أسلحة العلمانيين في هذا الميدان إلصاق تهمة الإرهاب بكل من يحمل مشروع الدولة الإسلامية واتهامه بالسعي إلى إقامة دولة دينية لاهوتية. وهكذا أعيد إنتاج هذا النظام السياسي الذي يشكل وصمة عار في تاريخ أوربا الحضارة والتقدم والحريات. وأراد الأوربيون إلصاقه بتاريخ المسلمين، معتمدين في ذلك على زبنائهم من المتعلميين، وتدفعهم في هذا الاتجاه رغبتهم الملحة في التشويش على الفكر الإسلامي عامة وقطع الطريق أمام المشروع السياسي الإسلامي وطموحات حامليه للوصول إلى مراكز القرار. وكل ذلك يتم في إطار حربهم الاستباقية ضد انبعاث الأمة الإسلامية. غيرأن هؤلاء لم يتوقعوا أن السحر يمكن أن ينقلب على الساحر. فهاهو مشروع الدولة الإسلامية في صيغة مشوهة” داعش” يظهر إلى الوجود ، ويعمل حاملوه على فرضه بالحديد والنار .. الشيء الذي أرعب العالم كله. وخاصة إخوانهم في الدين والإنسانية. ولا نستبعد أن يكون السبب الرئيسي لهذه الفاجعة هو رد فعل منحرف لما يتعرض له الإسلام من اعتداءات مخفية و علنية.

أما بالنسبة للحاكمية، فيعتبر ( المودودي) رحمه الله، أول من وظف هذا المصطلح توظيفا سياسيا، محاولا إعطاء إجابات إسلامية للنوازل التي تطرأ في العصر الحديث. وقد نالت هذه الفكرة نصيبا أوفر في مؤلفه حول الدستور الإسلامي و رده على ( المحامي روهي) الذي تحدى العلماء المسلمين من أن يثبتوا له وجود المبادىء الدستورية في القرآن . وقد خصص لمن يستطيع ذلك خمسة آلاف (روبيه ) .

قسم المودودي الحاكمية الإلهية إلى حاكمية قانونية وحاكمية سياسية .. الحاكمية القانونية تكون لله تعالى وحده، وذلك ما يستنتج من الآيات الكريمة ومنها قوله تعالى :” إن الحكم إلا لله، أمر ألا تعبدوا إلا إياه، ذك الدين القيم. ولكن أكثر الناس لا يعلمون.” (13 ) ويستنتج المودودي أن القوانين مصدرها الله تعالى بمقتضى حاكميته. ولذلك أمر سبحانه بالاحتكام إليها.

يتبع

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً

إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق
إغلاق