أخبارنافذة على الثقافة و الفن

قصة / إبليس في محراب العبودية

*إبراهيم أمين مؤمن

لم يثقْ عزازالمصرييل في أي جنّي، حتى ولو كان من أحد أبنائه مثل داسم، وداسم يعلم ذلك، لذلك، تسلّل في جنح الليل سارياً على ماء مثلث برمودا ومعه شمهروش، تسلّل متّجهاً إلى عرش أبيه إبليس، حيث ينام في ظّله.

كان يخشى أن يراه أحد الحرّاس الجان فيمنعه الدخول لعدم علم إبليس بقدومه في هذا الوقت من الليل، كذلك من مصاحبته ذاك المطرود من رحمة أبيه عزازيل، وهو العِفريت شمهروش الذى دعاه يوماً إلى الذهاب لقبر آدم والسجود له، وعدم طاعته لأوامره في غواية بني آدم .
وإبليس يعلم علم اليقين أنّه مخلّد، ولَكَمْ حاول أكثر من جنّي عبرالدهور اغتياله فلمْ يُفلح، ولقد دُقّتْ طبول الحرب بين مواليه وأعدائه، وكان المظفّر دائما، حتى في هزيمته يفرّ ثم ما يلبث أن يثبت عند مثلث برمودا المحصن ضد كل إنسٍ وجان.

انقضّ داسم على أبيه وسلسله بسلاسل من مادته .. سلاسل من نار، وكتم أنفاسه حتى لا يستغيث بالحرّاس، كما تلفّظ متوجّعاً آسفاً دامعاً من فعلته قائلاً: سامحني يا أبي فإني أُريد لك حسن الخاتمة، كما أريد الهداية لبني آدم، فكفى غواية يا أبتِ، ثمّ أقدم عليه شمهروش واقتلعَ قلبه من صدره و وضعه في قلب ابنه داسم بعدما اقتلع أيضاً قلب داسم و وضعه في قلب أبيه إبليس.

وكان ذلك أمراً هيناً على شمهروش، إذ كان طبيباً لا نظير له، كان الجان يلقّبوبنه بعيسي ابن مريم الجنّيي لهذا الزمان.

خرج داسم بقلب أبيه ومعه شمهروش متخفّياً تاركاً إبليس مُكبّلا بالأغلال مكتوم الأنفاس.
ولمّا حانتْ نوبة أحد الحرّاس نوى إلقاء نظرة على سيده إبليس ،وجده كما تركاه، فأسرع بفكّه ونزْع لجام النار من على فمه.

وبمجرد فكّه أخذ يسأل ويتوعّد قائلاً، أين الحرس وظلّ يردّد كلمات الوعيد والعزْل لغفوتهم وإهمالهم في حراستهم.

ولم تحنْ لحظة تكيّف القلب الجديد مع روحه وجسده، فنحن الآن مع إبليس جسداً وقلباً، لذلك توعّد وجار. 

قال داسم متأهّباً: الآن معي قلب إبليس محل الثواب والعقاب، فهيّا ياشمهروش إلى أتقى أهل الأرض لننفّذ خطتنا واسجدْ له لنبني سويّاً مجتمعاً عالمياً من الإنس والجان خالٍ من الحروب والرذيلة، تلك التي أنهكتهم وأشقتهم على مر العصور.

ونجنّبه الغواية والوسوسة الشرّيرة، وليغفر الله لأبي ويهدِه كما هدانا. 

لنخطّ صفحات الهداية لمستقبلٍ أفضل لنا وللبشريّة.

مضيا معاً متجهيْن إلى العبد الصبور الشكور .. مهلائيل .. فلمّا وصلا وجداه ساجداً لربّه، والأغلال في عنقه ويديه وقدميه ومكتوباً على جبهته من قِبل أعدائه بين قرني شيطان ” الإرهابي الأكبر” .إذ كان المجتمع الدولي كلّه يلعنه شرقاً غرباً.

كانتْ الزنزانة ضيّقة لدرجة أنه لا ينام فيها إلا مقرفصاً، ينام كما الجنين في بطن أمّه.

زنزانة لا يدخلها ضوء النهار فهي قطعة من ليلٍ بهيم.

ولا يعبرها هواء كأنها متموضعةً في السماء، لا يكاد المرء يتنفس فيها كالمريض بضيق شراينه  .. سمعاه في سجوده يحمد الله ويثني عليه ويدعوه بفكّ كربات الناس، ويذكر ويذكر ويردّد ويقصُّ من أمره، وكان من أمره يوم أن حرّض شعوب العالم المستعبَدة كلّها الخروج على حُكّامهم الظلمة الذين منعوا ذِكر الله في المساجد وسعوْا في خرابها، وإقامة دستور الحق الذي يقيم العدل للبشرية جمعاء، فتكالب الحكّام عليه واعتقلوه وسموه بالإرهابي الأكبر.

انتظراه حتى انتهى من سجوده، وقال شمهروش هيا يا داسم افعل ما تكبّدنا المخاطر من أجله، هيّا اسجدْ لابن آدم التقيّ .. هيّا اسجدْ لننهي الوساوس التي نالتْ من بني آدم فأفسدتهم.

بدأ جسد داسم يمتزج مع قلب أبيه الجديد، بدأ يتعرّف عليه كما يتعرّف الحاسوب على برنامج وضع عليه، بدا القلب كما البرنامج على الحاسوب يُسطّب على جسده.

بدأ البرنامج يعمل على جسده مضطرباً.

أعاد العفريت شمهروش القول الطلبي لداسم بالسجود، بيد أنّ داسم تشنّج جسده وتضعضع وظلّ يتألم، وبدأ قلبه يزفر ألسنة من نار تطاولتْ حتى اخترقتْ سقف الزنزانة، ثم تقلّصتْ من جديد ولملمتْ نفسها وتركّزتْ في نقطة في صدره .

بعدها شمخ أنفه وتطاول حتى غاب مداه عن مرمى البصر .. وما إنْ انتهى مهلائيل من صلاته حتى وجد أمامه رجلين، وسمع أحدهما يقول للآخر ها قد انتهى فاسجدْ .

داسم : يا شمهروش ألمْ تطلب ذلك من قبل فرفضتُ ولعنتكَ وطردتكَ من مملكتي ..؟ ردّ عليه قائلاً .. داسم صديقى ماذا دهاك ..؟ أبوك مَنْ فعل ذلك وليس أنت ..!! ألمْ نتفق على أمرٍ أزمعناه سويا ..؟ ردّ داسم .. لمْ أذكر إلا أنّى لعنتك وطردتك وقلتُ لك أأسجد لمنْ خُلق طِيناً .. قلتُ لك منذ شهور أنّي سأظلّ أغوينّهم كما تحدّيتُ ربّ خالق الكون من قبل يا .. لا شيء أنت.

واستطرد مشيراً بيده إلى مهلائيل باحتقار وناظراً إلى شمهروش بحنقٍ .. هذا .. لم أسجد لنبيٍ وأسجد لهذا الحقير هذا الطّين ..!! لمْ أطعْ خالق الكون وأطعك أنت يا لا شيء .. وباحتقار قال: هذا طين صلصال، وأنا نار وقدرة وقوّة وسرعة وإبادة وموت.

سكت شمهروش بُرّهة، وعنّ له الأمر إذ علم أنّ داسم الذي معه الآن هو إبليس، وإبليس في مثلث برامودا هو داسم، فماهيّة الجسد والروح معاً هيالقلب.

ولقد غُيّبَ عقله عن ذلك رغم أنه الخبير المحنّك في علوم الطب لشغفه بإنقاذ البشريّة من الهلاك، إذ كانتْ رغبته الجامحة مثل العِصابة على العين التي أخفتْ عنه رؤية الأشياء.

بنور الله استنتج مهلائيل من خلال حديثهما كل ما حدث من أمور وما اتفقا
عليه سويّاً .. انقضّ على إبليس وجنّدله وسارع وسارع قبل أن يتحول إلى هيئته الحقيقية فيستطيع الفِكاك من قبضته .. انقضّ عليّه فطوّقه بسلاسل يده ثم جنّدله ثُم ارتمى عليه بثقله ليكتم أنفاسه، ثُم شدّ بيديه على رقبته ليخنقه، وكيّل له اللكمات ليُضعفه، ثُمحاول أنْ يفقأ عينيه، إذ فقأْ عينيه غنيمة الغنائم، على إثره سوف يعيش إبليس بعدها أعمى، فتتلاشى قدرته على إغواء بني آدم.

وحاول أن يُحدث ثقباً في أُذنيْه ليعيش أبكم وحاول قطع لسانه ليعيش أخرس ,بيد أن كل هذا لم يفلح رغم أنّ شمهروش بعد إدراكه حقيقة الأمر كان يساعده بإمساكه لتُشلّ حركته حالما يفعل به مهلائيل الأفاعيل، إذ قلبإبليس الآن أسير تشكّله الأنسي.

ولقد كانتْ عزيمة مهلائيل متوثّبة متوحّشة وهو يخنق جسد داسم قلب إبليس، إذ تجمّع فى مكامن نفسه كل إغواءات البشر عبر كل الدهور، وتراءتْ أمامه كل دماء الضحايا من الحروب القديمة والحديثة ..  لقد حمّله مهلائيل دوافع الشّرّ في النفوس الأمارة بالسوء أيضاً، علاوة على الوساوس والغواية، و وضع كل هذا على كاهليه، فتضاعفتْ قوى يديه حول رقبته لفوران الدم من غضبه.

تحوّل إبليس في تلك الأثناء إلى هيئته الحقيقية وانسلبَ من تحت مهلائيل وبادله شمهروش نفس الفعل فتحوّل ليمسك به قبل أن يهرب .. وتصارعا، ورغم الإعياء الشديد الذي أصاب جسد داسم وقلب إبليس إلاَ أنه وبسهولة استطاع أن يقتل شمهروش، فانفجر دخاناً في الهواء خرج من سقف الزنزانة، ثم لاذ بالفرار مخترقاً كل الحجب قاصداً عرشه على مياه مثلث برامودا.

عاد داسم الجسد الحامل قلب أبيه إبليس في صدره إلى مملكته عاقد العزم علىاسترداد جسده من ابنه، فهو يريد الجسد وممسك بقلبه بجنون، ممسك قلبه بجنون.

فلمّا وصل المملكة قابله جسد إبليس بقلب داسم فوجده متوّجاً ملكاً عليهم يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر، ذاك لأنّهم لم يفطنوا إلى ماهيّة تبادل القلبيْن، انخدعوا في شكّله المقدّس المرعب شأنهم كشأن بني آدم يقدّسون المظاهر ويهابونها ولا يبحثون عن الجوهر والأصل ألاَ وهو القلب.

تحاورا أمام الجنّ فانعكستْ الأسماء، مما زاد من دهشتهم وحيرتهم، ولمّا امتدّ الحديث أدركوا حقيقة الأمر، وأنهم لبثوا مع إبليس المزيف في العذاب المهين، إذ كان يسخّرهم لخدمة الضعفاء من الجان ويمنعهم عن إغواء الآدميين.

رفض داسم أن يُسلّم جسد أبيه له، حيث أنه ملكَ به قلوب الجنّ خوفاً ورُعباً ونشر بقلبه بينهم الفضيلة والرحمة والحقّ والعدل .. قلب داسم الطيب.

توعّد قلبُ إبليس جسدَ داسم وهدّده بالقتل فلم يستجب.

التفّ الجنُّ حول إبليس المزيف وطوّقوه وقتلوه، فلمّا انتهوا قال لهم اخلعوا قلبه وأحضروه، فهبّ أحد الحُكماء منهم قال، قلب داسم الطيب مات مع موت جسدك أيّها الأبليس الملك، ولا سبيل لإرجاعه، أنت قدرنا بجوهرك الذي هو قلبك الخبيث الشرير إلى يوم الدين لا بشكلك، شكل ابنك داسم المسكين.

*قاص مصري

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق
إغلاق