أخبارمتفرقاتنافذة على الثقافة و الفن

التعليم بين حق المجانية وروح المقاولة

ذ. جمال حسني

SORAطالت موجات من الاحتجاج العديد من المدارس الخصوصي، وأصبح موضوعا يُسيل مداد الكثير من الأقلام المتعددة المشارب، بين شد وجذب وصل أحيانا حد التنابز والتطاحن .. ورغبة مني كمتتبع للشأن التربوي في مقاربة الموضوع بحياد وموضوعية، أمام العقلاء ليكون منطلقا لحوار جاد يعيد الأمور إلى نصابها إذا ما رجعنا بالذاكرة إلى السنين الخوالي، نجد أن قطاع التربية والتعليم، كان يعتمد على التعليم العمومي كخيار استراتيجي وحيد وأوحد ،لا منافس له غير الكتاتيب والمدارس العتيقة، حيث تخرجت منه خيرة الأطر الوطنية، معتمدا على مبادئه الأربعة التي حُددت منذ فجر الاستقلال .. لكن، سرعان ما ظهر هناك كائن غريب اسمه : “التعليم الخصوصي”، في نهاية ثمانينات القرن الماضي .. إذ، بات ملجأً للمتعثرين الذين لم يتمكنوا من النجاح والتوفيق في مسارهم الدراسي بالتعليم العمومي، وقد تلمستْ فيه الحكومة آنذاك، حليفا يخلصها من تبعات “التكاليف الباهضة”، التي يقتضيها التعليم العمومي باعتباره قطاعا “غير منتج”، -بشهادة التاريخ، فعمِلتْ على تطوير القطاع الخاص، والاستثمار فيه، بل ورفعت يدها عن العمومي بشكل أو بآخر، من خلال السكوت على الاكتظاظ وقلة الموارد البشرية والظواهر اللاأخلاقية المتفشية في محيطه (العنف .. تعاطي المخدرات .. التحرش …)، كما ساهم في ذلك أيضا تبخيس أدوار المربين وتحجيمها، بالتنكيت عنهم، وجعلهم محط السخرية بنشر الطرائف من قبل من هب ودب .. كل هذه الأسباب ساهمت في انتعاش التعليم الخصوصي.

ومع بروز ظاهرة هروب الآباء بأبنائهم إلى مؤسسات التعليم الخصوصي خوفا عليهم من براثن المخدرات والظواهر اللاأخلاقية التي أضحت تميز الكثير من المدارس العمومية، أصبح التعليم الخصوصي ملاذا اضطراريا للبعض، جراء عمل الزوجين وصعوبة ما يرافق ذلك من إكراهات، تتناسب و العروض المقدمة إليهم كتحقيق أمن أبنائهم ومتابعتهم في دراستهم، وملاذا اختياريا لدى البعض، بل ومفخرة أمام الأهل والجيران، ولو على حساب قوت عيالهم اليومي، مقابل الاطمئنان على “مستقبلهم”، الشيء الذي غدا معه التعليم العمومي مقصدا لمن لم تسعفهم الإمكانيات المادية والجغرافية وحتى التاريخية – ليس أبناء برادة وبنشقرون وبنجلون كأبناء الجايح والمكحط والمگرد-.

و في ظل هذا وذاك صار التعليم الخصوصي، قبلة للمستثمرين مدرا للأموال الطائلة التي تعجز مشاريع أخرى عن تحقيقها وفي ظرف قياسي متناه، وهنا حُقّ لنا تسميتها :”مقاولات ربحية ” تُعنى بكل ما هو مادي، توظيفا لما هو تربوي، كمن يوظف حقا يراد به باطل . — وأستثني هنا العديد من المؤسسات النزيهة المتفانية في أداء رسالتها النبيلة، موازنة بين الحقوق والواجبات – . فتدهورت مردوديتها التربوية وصار النفخ في النقط رهانا ومقصدا بمباركة الآباء والأمهات، بغية ولوج كبريات المعاهد والكليات، وشق الطريق نحو ضمان “مستقبل” الأبناء، وما نطق الأطفال بكلمات أجنبية رنانة، سوى لوحات إشهارية مزيفة ترويجا منهم لمنتوجات رديئة الجودة، الشيء الذي زاد من وثيرة اجتهادهم في تنويع مداخيلهم وتكثير مواردهم عبر ابتكار قنوات للدخل، من قبيل التأمين ذي السومة الخيالية والتسجيل الباهظ والأنشطة الموازية والحفلات والرحلات والمطاعم المدرسية، دون أي استشارة مسبقة للآباء .. مستغلين في ذلك نقط ضعفهم وخجلهم وحرصهم على فلذات أكبادهم، ومع حلول هذه الجائحة كوڤيد 19 أو كورونا – وقانا الله وإياكم شرها برفعها ودفعها عنا – كُشِفَ المستور وحَصْحَصَ الحق وتأكد بالملموس زيفَ الشعارات التي ترفعها الكثير من المؤسسات الخصوصية، حيث اكتشف الآباء خلال التعليم عن بعد – باعتباره إجراءً استباقيا – مستوى أبنائهم الحقيقي عن قرب، واستيقظوا من سبات عميق على أوهام كانت بالأمس القريب أحلاما وردية زاهية، وفي ظل هذا وذاك ما كان عليهم، إلا أن يتشبثوا بعدم أداء مستحقات المؤسسات كاملة وهو حق تستوجبه معايناتهم تحت وطأة الحجر الصحي، كرد فعل ساخط، وبقيت المؤسسات العمومية تتعثر بين الحفر في مسيرة طويلة تتخللها عقبات لا سبيل لتجاوزها.

لقد حان الوقت لفتح حوار مجتمعي جاد تشارك فيه أطياف المجتمع بمختلف تجلياتها، بهدف النهوض بالقطاع نهضة تستجيب لتطلعات الآباء والطلاب على حد سواء، بضمان مستقبل أبنائهم في “مدرسة الجودة وتكافؤ الفرص”، تحت الشعار الخالد المقتبس، من شعار جمعية الرسالة للتربية والتخييم :

أمر التربية هو كل شيء وعليه يبنى كل شيء

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق
إغلاق