نافذة على الثقافة و الفن

المنفى و نوستالجيا الشعراء

سناء الحافي*
عرف الشعر العربي- على نحو خاص- ضروب الحنين، لاسيما عندما كان الشاعر يضطر لمغادرة أرضه، ما ترك أثره على نحو جلي في العديد من القصائد العربية التي تعدّ مرجعا مهما ـ للنوستالجيا بمفهوم حداثي- فكان الوقوف على الأطلال، وبكاؤها أو استبكاؤها سمة بارزة في القصيدة التقليدية، تحرك كوامن روح الشاعر ونفسه، وفق إسقاطات لغوية واستعارات ومجازات، تجعل النص حيّا صالحا في كل زمان ومكان، مجسراً اللحظة بين الماضي والحاضر، وفي حاضرنا أصبحت التيمة القدرية للعديد من الأدباء هي الغربة/ المنفى، نتيجة الظروف السياسية والاجتماعية والحروب التي كان سببها التباس وإندغام زمني بين الواقع والتوقع، إذ هنالك تجارب تظّل حارقةً من الصعب ملامستها والانسلاخ من أوجاعها، فتظلّ قابعة بالنفس تقتصّ متعة الحرية والضوء، كتجربة السجن مثلاً، التي تشكّلُ لدى العديد من الشعراء والكتاب جرحاً وصدمةً لاسبيل إلى أن يبرأ منها احد .. وتجربة المنفى/ الغربة بوصفها -إن صحّ الوصف- التوحد الكامل مع الألم ، كأن تُقتلع كنبتة وتغر في غير بيئتك فيصبح التكيّف خيارا بين الموت والغرق
فمن البديهي أن ينطلق الشاعر من عمق الذات للتعبير عن توحّده مع ألمٍ عسير إرضاؤه، ومن واقع مسلَح بقسوةٍ أبدية، يؤثث خرابهُ بدأب نحلة .. فهناك من يختار العمل الأدبي فضاء للمتعة واللذة المستعصية، ومنهم من يتورط بشغف التحرر في محاولة بريئة ومتواضعة لجعل العالم مكاناً يُمكن العيش فيه، فتبدأ عملية الخلق الأدبي عندهم من محدّدات لا نهائية .. تنتجها فلسفة اجتماعية أو سياسية تمتد إلى أقاصي التمرد على المحددات الفكرية التي يسنّها قانون الإبداع،
من هنا تبدأ مخيلة الشاعر التي هي مصنعه الداخلي الخفي بالعمل، وقودها قضية الذات/المنفى، فيحدث ذلك كله دون تدخل منه أحيانا، وسرعان ما تنتظم الحروف والإيقاعات والصور في معادلات إنسانية بالغة العمق، وتتشكّل لديه أحاسيس في ثنائيات متناقضة كالموت والحياة والحب والحرب إلى غير ذلك، لتصبح نوستالجيا الذات الإنسانية هيَ الحاكم والجلاد الذي يتزعمه النص ويتوحد معه القراء، حيث يصنع الحلم في صراع ضارٍ مع قتل الحلم الذي غالبا ما يكون هروبا مؤقتا إلى مستقبلٍ أكثر مراوحة من خلال نوستالجيته .. والتي قد تكون بالنسبة له : الرد على كل القبح والظلم والنشاز الذي يملأ عالمه ولو طلبت منه أن يبرز هويته لاكتشفت أن الحلم جزء خفي في اسمه الثلاثي.
لكن بالرغم من صدق الشاعر واحترامه للشعر والتصاقه بأرضه وماضيه يكون الشعر والظروف التي مر بها وحدها ليست كافية لصناعة شاعر إن لم يعِ أنه يتكلم في ساحة لم يترك الجياد مضمارا من مضامير القول فيها إلا خاضوه بدءا من امرئ القيس وليس انتهاء بدرويش، فما الفائدة إذن أن يكرّر ما قالوا ..؟ لتبقى المسافة التعبيرية بين القديم والجديد من الحدود المتنازع عليها استنادا على الثوابت والمتغيرات التي تفرض مجاراة الواقع والحدث والقدر.
* رئيسة تحرير مجلة أصيلة الأدبية

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق
إغلاق