أخبارنافذ غلى الثقافة والفننافذة على الثقافة و الفن

بين السواقين والمجانين نشيد غير مكتوب لمهرجان موازين

 

بقلم: سعيد ودغيري حسني

في مدينة الرباط .. حين يغيب القمر خلف قبة البرلمان، وتغفو الأشجار على أرصفة أكدال .. يستيقظ الجنون من نومه، يرتدي قبعة الطرب، ويخرج إلى الشوارع راقصًا باسم مهرجان موازين

ليست الرباط في تلك الأيام كما نعرفها، تتبدل ملامحها، تخرج من روتين العاصمة لتلبس وجهًا آخر .. وجهًا تُضيئه المنصات، وتكتظ فيه الأرصفة بالحالمين، وتشتعل فيه الأزقة بغبار الرقص وصدى الأغاني التي تتسرب من كل زاوية

في النهار، تبدو المدينة كأنها تنتظر .. تتأمل منصاتها الفارغة، وتتنفس بصبر طويل .. لكن، مع أول غروب تنقلب الصورة ويبدأ الجنون .. جنون لا يروّضه قانون السير، ولا يطفئه صوت منبهات السيارات

المجانين كما يجب أن يكونوا .. هم أولئك الذين، لا ينتظرون دعوة، ولا يحتاجون لتذكرة، ولا يسألون عن برنامج الأمسية .. إنهم المجانين الحقيقيون ..   مجانين الفن .. عشاق النغمة، الذين لا يعرفون من الحياة سوى مقام حجاز، وقافية معتقة وصوت يوقظ فيهم الذاكرة

هؤلاء ليسوا مجرد متفرجين، بل جزء من العرض، بل النَفَس الذي يُبقي المهرجان حيًا .. هم من يحفظون كلمات الراب عن ظهر قلب، يرددونها قبل أن ينطق بها صاحبها على المنصة كأنها أناشيدهم السرية وترانيمهم اليوميةتراهم شبابًا مراهقين وشيبًا عائدين إلى فتوتهم لساعات،منهم من أتى من تطوان أو زاكورة راكبًا حافلة مهترئة، أو متسلقًا صبر الطريق فقط ليحضر لحظة صافية من الغناء

في موازين الراب له معبد والطرب له مزار، والشباب يصطفون أمام كل منصة كأنهم في طابور الاعتراف، يعترفون بأنهم مدمنون على النغمة على “البيت” والـ”بار” على موسيقى تصفعهم وتحنو عليهم في آن

السائقون .. ضحايا لا يُذكرهم أحد، أما السائقون فهم الجنود المجهولون في هذا الاحتفال، يصارعون زحمة بلا منطق، وشوارع بلا هوادة .. يصرخون من خلف المقود، كأنهم يعزفون سمفونية من الغضب .. سائق طاكسي يقسم ألا يعود إلى السويسي، وسائق حافلة يمزج الشتائم بالموسيقى الشعبية، ودراجة نارية تخترق الصفوف كأنها سهم هارب من نزال شعري .. لكن، حتى هؤلاء في عمق أعصابهم المحترقة، ثمة لحن ما، ربما يسمعونه حين يُغلق عليهم الزجاج، أو حين يقفون لحظة قرب شاحنة تبث أغنية من زمن آخر

الناس بين منصة ومنصة موازين ليست فقط المهرجان الرسمي، هي مئات العروض الجانبية .. منصات لا مرئية، حيث يرقص شاب في ساحة البريد، وتغني فتاة في الزنقة الضيقة عند السوق المركزي، وتلتقي وجوه لا تعرف بعضها .. لكنها، تتصافح في النغمة .. هناك من يبيع الشاي ويحفظ كل الأغاني ويرددها وهو يصب السكر، وهناك من يلتقط الصور بكاميرا هاتف مكسور فقط ليحتفظ بذكرى تثبت أنه عاش شيئًا يومًا ما، وهناك ذلك الطفل الذي يعتلي كتفي أبيه ويرفع يديه عاليًا كأنه يحاول أن يلامس نجمًا، ثم يردد لازمة أغنية راب لم يتجاوز عمرها الأسبوع .. لكنه، يحفظها بحماسة من عاشها .. مجانين الكلمة والإيقاع .. الراب ليس مجرد غناء، هو نشيد جيل بأكمله .. جيل لا يؤمن بالخطب ولا يثق في الميكروفونات الرسمية .. لكنه، حين يسمع مغنّيه على المنصة يرقص بحرية .. يبكي بلا خجل، ويصرخ بكل ما كتمه عامًا كاملًا

هؤلاء المراهقون يحفظون الكلمات كما لو أنها حروف مقدسة،يصححون أخطاء المغني إن تعثر، ويتفاعلون مع كل بيت كأنه قصة شخصية .. في عيونهم،لا فرق بين فنان عالمي ومغنٍ محلي، فما يهمهم ليس الاسم، بل الصدق والإيقاع الذي يشبه ضربات قلبهم حين يحبّون

زبدة القول

مهرجان موازين ليس فقط تظاهرة فنية، هو مرآة كبيرة تعكس تفاصيل هذا الوطن، من مجانين الطرب،  الذين لا تفوتهم نغمة إلى مجانين الراب،  الذين يحفظون الكلمات قبل أن تُكتب من سائق فقد صبره في الزحام، إلى شاب وجد خلاصه في لحن، من طفلة تغني فوق كتفي أبيها، إلى امرأة صفقت حتى تورمت يداها .. في موازين الغناء لا يكون على المنصة فقط، بل في الزحام في النظرات في الحكايات، وفي لحظة صمت بين أغنيتين .. موازين لا تُقاس بعدد الحضور، ولا بجنسيات الفنانين، بل بعدد القلوب التي اهتزت، وعدد الأرواح التي رقصت، وعدد المجانين الذين عادوا إلى بيوتهم أكثر إنسانية

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق
إغلاق