منبر حر

مجادلة علمانيين ( تـــابع )

الإسلام

الدولة الاسلامية دولة لاهوتية

 

الدكتور الصديق بزاوي

من الملاحظ أن العلمانيين، وخاصة المسلمين منهم، ينهلون أفكارهم ونظرياتهم من نفس المنبع. وأن وحدة المنبع هذه ساهمت أحيانا كثيرة في تقارب مواقفهم، إن لم نقل تطابقها التام، حول قضايا الإسلام السياسي، كاتهام المشتغلين فيه بسعيهم إلى إقامة الدولة الدينية. وقد نستنتج هذه الظاهرة من خلال المداخلة التي جاء فيها ما يلي :

“يلعب الإسلاميون لعبة مضحكة. يعلنون أنهم لا يريدون دولة دينية، ولكن دولة مدنية، ويدللون على ذلك بأن قادتهم ممن يرتدون أزياء مدنية ويتخصصون في العلوم والمهن الدنيوية، والدولة الدينية ليست هي الدولة التي يحكمها رجال دين يلبسون العمائم، ولكن الدولة التي تتخذ لها مرجعية دينية، سواء كان الذي يحكم شيخا أو طبيبا أو مهندسا .. تنتمي إلى نسق فكري واحد. وذلك حتى وإن اختلفت بعضها عن بعض في بعض الشعارات والافكار وأساليب العمل .. إنهم يجمعون على هدف واحد هو الاستيلاء على السلطة والحكم وتقويض أسس ودعائم الدولة المدنية، وبناء دولة دينية ..”

“اليمقراطية لايمكن لها أن تتحقق في ظل الأنظمة التيوقراطية التي تجعل من الدين قاعدتها تستمد منها شرعيتها، فالدولة الدينية تجعل الحاكم يحكم نيابة عن الله، وهذا ما يعرف بالحاكمية ..”

يبدو أن هذا النوع من الحوار لا يقوم بمعالجة القضايا بنوع من الرزانة والتحليل العلمي الموضوعي، والذي يمكن أن يؤدي إلى تقارب الرؤيا، وذلك لكون العلماني المسلم ينظر إلى الإسلام السياسي نظرة المسيحيين إلى الديانة المسيحية كما تم تفعيلها المشوه من طرف الكنيسة. ومع ذلك، فالمجادلة الحسنة تحتم على المسلم تقبل جميع الأفكار بصدر رحب .. نعم، لابد من التأكيد على أن المقصود بالدولة الإسلامية هو الدولة التي تتخذ لها مرجعية دينية (إسلامية). وأن هذه الدولة ليست دولة (دينية) بالمفهوم المتعارف عليه في الفكر الأوربي والذي انتقل بشكله الجاهز إلى ثقافة المسلمين المصطنعة، وإنما هي دولة (مدنية) . أما الدولة الدينية التي يمكن الحديث عنها في الفكر الإسلامي الأصيل، فهي الدولة التي عاشت مع الرسول (ص) وانتهت بوفاته .. وذلك، لأن أفعاله (ص) كانت محكومة بتوجيه ووحي من الله عز وجل. وحتى هذه الدولة لم تكن دينية بالمفهوم الكهنوتي إلا في جانبها العقدي التعبدي والتشريعي. أما جانبها التنطيمي والتنفيدي فقد امتزج فيه الوحي والإلهام الإلهي مع التجربة والعقل البشري. أما دولة المسلمين في عهد الخلفاء الراشدين أو بعدهم فتعتبر دولة (مدنية) بكل ما تحمله هذه الكلمة من معنى، لأنها تشكل فقط اجتهادا بشريا على هدي الشريعة الإسلامية، والمجتهد كما هو معروف، قد يصيب وقد يخطئ. وأن لا أحد معصوم من الخطأ باستثناء الأنبياء، على الأقل بالنسبة لمذهب الجماعة والسنة, وأن مؤسسات هذه الدولة وسياستها أبدعها ووضعها بشر ساهم بشكل او بآخر، في اختيار الخلفاء وفي اتخاذ القرارات وتحقيق الانتصارات. وأن الأمة تشكل مصدر السلطات وتشرع لدنياها وفق شرع الله سبحانه وتعالى. ولا أحد من الباحثين النزيهين يستسيغ القول بأن حكام المسلمين نصبوا يوما ما أنفسهم نوابا لله وارتفعوا إلى مراتب النبوة. الشيء الذي لا يمكن حصوله، بل حتى تصوره، في دولة الخلفاء الراشدين .. ولا أدل على ذلك، من قولة عمر بن الخطاب رضي الله عنه المشهورة: “وليت عليكم ولست بخيركم. فإن أحسنت فأعينوني. وإن أسأت فقوموني” ومن حيث موقف الشريعة فإنه لا يجوز تقديس أي أحد من البشر مهما بلغ شأنه. وذلك بكل بساطة لأن الوحي قد انقطع مع وفاة محمد عبد الله ورسوله .

إن الإسلام أعطى للعقل مجالا واسعا لتسييرالشأن العام لكل اجتماع بشري وسياسة الدولة، بعد أن وضع إطارا عاما على شكل قواعد أصولية صالحة لكل زمان ومكان بفضل قدرتها على استيعاب كل المتغيرات والمستجدات من انتاج البشر. وبفضل فرض الاجتهاد على المسلمين. وأن الاجتهاد يشمل إعمال العقل لاستناط أحكام تفصيلية من القواعد الكلية. وأن هذه العملية لم يجعلها الإسلام حكرا على طائفة دون أخرى، بل جعلها مفتوحة على كل شخص يمتلك الأدوات اللازمة لذلك. ويتوفر على قدر من العلم الذي يقتضيه حجم النا زلة ويستوعب أصول الشريعة الإسلامية ومقاصدها. وهؤلاء الخبراء لم يدعوا يوما امتلاك الحقيقة الكاملة، ولم يشكلوا يوما ما يصطلح عليه العلمانيون “السلطة الدينية ” التي حكمت أوربا قرونا عدة .

إن الاسلام يحرم الظلم والاستبداد، وهما سمتان أساسيتان من سمات الدولة الدينية ” الكهنوتية ” ويجعل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فريضة دينية، مما يجعله قادرا على تجديد نفسه عن طريق مقاومة الفساد وإصلاح السياسة والمجتمع، وتوليد آليات جديدة أكثر عدلا وأكثر قدرة على جلب المصالح للعباد ودرء المفاسد عنهم .

يتبع

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً

إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق
إغلاق