أحداث دولية

بين أزمة الاتحاد الأوربي والدرس الديمقراطي البريطاني لحكومة المحافظين

80 A

على عكس توقعات رئيس الحكومة البريطاني “دافيد كامرون” بممارسة الضغط على الاتحاد الأوربي من أجل معالجة الاختلالات الاقتصادية والسياسية والثقافية منها، جاءت نتيجة الاستفتاء على سؤال البقاء أو الانفصال ضد حملته للبقاء في البيت الأوربي على أن بريطانيا غير ملزمة بكل بنود معاهدة “ماسترخيت”، حيث لا تخضع في تعاملاتها لعملة الأورو، ولا تتبنى تأشيرة شنغن رغم عضويتها الكاملة في مؤسسات الاتحاد.

إن ما يدل على هول آثار الاستفتاء هو سرعة أزمة الأصوات المالية وانخفاض مؤشراتها، فعملية الجنيه الإسترليني انخفضت إلى ما دون 8 % مع ما صاحبها من انكماش في الاستثمارات الأجنبية التي سترحل عن لندن التي كانت قبل الاستفتاء من أنشط الأسواق المالية الدولية، وتحويلها إلى مركز عالمي يستقطب جل الشركات الدولية العملاقة إلى جانب خسارة بريطانيا لثقلها الاقتصادي والمالي في أوربا الذي كان يوفر لها أكثر من 30 % من عائداتها المالية في ميزانيتها السنوية، ناهيك عن فرص العمل التي كان يوفرها لاستفتاءاتها في أوربا، وبالنسبة لليد العاملة الرخيصة القادمة من أوربا الشرقية.

ستكون تبعات الانفصال وخيمة على استقرار بريطانيا التي ستصاب بالعدوى من خلال تهديد إيرلندا الشمالية وسكوتلندة بالانفصال عنها، والانضمام إلى الاتحاد الأوربي، وتهديد هذا الأخير لبريطانيا بضرورة الإسراع بالمفاوضات المتعلقة بالانسحاب التي ستكون عواقبها وخيمة على الاقتصاد البريطاني، وهذا ما عبر عنه البريطانيون الذين وقع منهم أكثر من 5،2 مليون عريضة للمطالبة بإعادة الاستفتاء لتجاوز الآثار السلبية للانفصال عن الاتحاد الأوربي التي ستطال جميع المجالات.

إذن، على بريطانيا إن لم تراجع خطورة القرار الانفصالي الذي أقدمت عليه أن تتحمل تطبيق معاهدة لشبونة التي وافق عليها الأوربيون في الاتحاد لتنظيم عملية الانفصال والانسحاب، والتي ستستغرق المفاوضات فيها على الأقل سنتين، والتي ستؤثر على أنظمتها الاستعمارية في أوربا التي تكونت لديها خلال مدة وجودها في الاتحاد الذي التحقت به في بداية السبعينات من القرن الماضي، بما فيها باشتغال الكثير من شبابها في أوربا الذين لن تتمكن في إدماجهم في اقتصادها .. ولعل حزب المحافظين الذي دافع عن الانفصال يدرك اليوم حجم الخسارة التي سيتكبدها في الانتخابات المقبلة التي ستكون لصالح حزب العمال الذي عبر جل أعضائه عن البقاء في أوربا، وحتى الذين تحمسوا من حزب الاستقلال الوطني لقرار الانفصال سيعلمون مساوئ هذا الاختيار في الانتخابات البرلمانية المقبلة مادام وجود بريطانيا في الاتحاد قد منحها منذ انخراطها من الاندماج الطبيعي، ومن التأثير المباشر في مسيرة الاتحاد الذي تساهم في ميزانيته السنوية بأكثر من 12 مليار أورو.

بخصوص الاتحاد الأوربي نفسه، فولادته القيصرية كبديل عن السوق الأوربية من قبل الدول الستة المؤسسة، وما عرفه من تحولات عبر انضمام الدول 28 إلى معاهدته واشتغال مؤسساته الاقتصادية والسياسية على منظومة قوانينه أصبحت في حاجة إلى التطور لمواكبة حاجيات وتطلعات الشعوب الأوربية التي انضمت إليه من شرق أوربا التي تختلف أوضاعها مع الدول الغربية في الاتحاد، كما أن وظائف هذه المؤسسات المؤطرة للاتحاد أصبحت قراراتها تتعارض مع سيادة الدول المنضوية في إطاره، وهذا ما تمت ملامسته في تعاطي الاتحاد الأوربي مع القضايا الدولية الاشتراكية، ومع المشاكل الغربية من حدوده في معسكر الدول الاشتراكية المستقلة بقيادة روسيا، وما أصبح يعيشه الشرق الأوسط المجاورة له .. هذا التعاطي الذي اختلفت المواقف منه بين أعضاء الاتحاد، خاصة مشاكل الهجرة واللجوء والقضايا الاقتصادية التي لم تتم معالجتها من قبل مؤسساته، سواء مع أمريكا والاتحادات الجهوية في القارات المجاورة ومستقبل الوحدة الاقتصادية النقدية التي لا زالت بعض دول الاتحاد خارجه.

بين عمق أزمة الاتحاد الأوربي التي تتجلى في عدم الرضا على قرارات مؤسسات الاتحاد الذي تهيمن عليه الدول المؤسسة للاتحاد، وتورط الاتحاد عبر حلف الناتو في بؤر التوتر في عدة مناطق خارج أوربا، وضغوط الهجرة واللجوء التي لم تعد دول الاتحاد قادرة على استيعابها، وحوادث الإرهاب التي أصبحت تهدد الأمن في جميع أوربا، بما فيها بريطانيا إلى جانب جوانب الأزمة الاجتماعية والثقافية والاقتصادية التي تعيشها الدول الفقيرة في الاتحاد.

إذن، سيتمكن الاتحاد بعد صفعة الاستفتاء البريطاني من الانكباب على معالجة مشاكله وتطوير أداء مؤسساته السياسية والاقتصادية، ولن يسمح مستقبلا بتكرار ما وقع في بريطانيا، ولن يتأخر في الاستجابة لعموم الأوربيين الذين يتطلعون إلى ارتقاء دور الاتحاد في تعميق الوحدة بين شعوبه وتحقيق مطالبهم في التنمية والديمقراطية والتحرر التي تقوم عليها المبادئ التي تأسس عليها الاتحاد الذي أصبح بديلا عن السوق الأوربية المشتركة التي كان من المفروض تطويرها إلى كيان وحدوي أوربي وتنموي وصناعي متطور في القارة.

ما يمكن استخلاصه هو أن الخروج البريطاني من الاتحاد لم يكن قرارا صائبا بالنسبة للمحافظين، كما أن تداعياته على اقتصادها والاقتصاد الأوربي ستكون كبيرة إلى جانب أن الأطراف البريطانية التي راهنت عليه للضغط على المتحكمين في مؤسسات الاتحاد ببروكسيل لن تمكن الاتحاد من استرجاع توازنه ومعالجة مشاكله بدون وجود بريطانيا إلى جانب أن من يفكرون في استعادة بريطانيا العظمى القوية في شمال الأطلسي، وفي العالم لن يتمكنوا من ترجمة هذا الحلم لانعدام العوامل المساعدة على ذلك في النظام الدولي الحالي.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق
إغلاق