أخبارمجتمع

الطفل المستهلك

الطفل

ذ. عبد الرحمان مجدوبي

يظل الاستهلاك ضرورة إنسانية وبشرية، ومن صميم التعابير الخارجية (1) والداخلية المعبرة عن الحالة النفسية المبرهنة على مكانة الإنسان في الدورة الاقتصادية .. لكن، يجب أن نفرق في هذا السياق بين الاستهلاك حين يكون مضبوطا بعقارب التوازن والاعتدال والعقلنة .. مكملا وخادما للبناء الروحي المعنوي، وبين تحوله إلى ثقافة تهافت مناقضة لجوهر البناء السليم للذات الإنسانية .. مدمرا لبوصلة كفاية التربية على الاختيار، ومتسلطا على ثقافة وفن العيش الممزوج بعبق الحرية والتعبير عن التحكم في الذات.

إن الاستهلاك الذي نخص في مقالتنا هاته لا يرتبط بالحاجة إلى استمرارية النوع البشري، وإنما يلتصق بالإشباع المنفرط للرغبات المتجددة (الإسراف .. الترف .. الإرفاه .. التبذير) الحاثة على طلب المتعة في كل حين، وبذلك لا يعود الاستهلاك في هذه الحالة مقصودا لذاته، وإنما يصبح مرغبا فيه لقلب القيم وعولمتها وإعادة تأسيسها على القوة والعنف ومقولة البقاء للأقوى، بهدم البناء الاجتماعي ولحمة الأخوة الإنسانية والإيمانية، وزرع ثقافة البراغماتية، وشعار الغاية تبرر الوسيلة.

إن الإنسان حين لا يستنفر منظومة القيم المرجعية دينية أو ثقافية كمحدد لملامح هويته وأعرافه وأناه، ليسائل فعله ونهمه الاستهلاكي الغير المدجن، يتحول حينها الاستهلاك إلى قيمة مشروعة متحررة تدافع عن نفسها من منطلق الضرورة البشرية وتنبري المؤسسات الرسمية وغير الرسمية سندا تحت مظلة عناوين ومقاربات حقوقية، لتدب في جسد المجتمع وتهدم البناء المتعارف عليه، وتؤسس لنظرة جديدة تحت عناوين منمقة من قبيل الحرية و … ويتحول المستهلك إلى كائن لا إرادة له سوى ما تضمنه له القوانين نفسها لتحصين رغبته في الاستهلاك، وتمتيعه بأقصى الحقوق في ولوج الميدان من أبوابه المفتوحة دون رقابة ولا سلطة، وضمان عبور الحدود للمنتج الاستهلاكي في تغييب تام للمنظومة الأخلاقية والقيم والشرائع.

1-استهلاك الألعاب الإلكترونية

أ) تعريف الاستهلاك لغة، واصطلاحاً:
الاستهلاك لغة: استخدم الفعل هلك في اللغة في الدلالة على تلف الأشياء المادية (2)، قال ابن فارس:(هَلَكَ)، يَدُلُّ عَلَى كَسْرٍ وَسُقُوطٍ (3) ومن الأشياء المستهلكة المال والطعام واللباس والعادات والتقاليد والأفكار والقيم والخدمات والجهد وغيرها، و(اسْتهْلك) فِي كَذَا:” جهد نَفسه فِيهِ وَالْمَال وَنَحْوه أنفقهُ أَو أهلكه، وَيُقَال: اسْتهْلك مَا عِنْده من طَعَام أَو مَتَاع” (4).

الاستهلاك اصطلاحاً: يُعرف الاستهلاك اصطلاحاً بأنه:” استخدام سلعة أو خدمة في تحقيق منفعة بصورة مباشرة بدون استعمالها في إنتاج سلعة أو خدمة أخرى”. 5

إن الاستهلاك بهذا المعنى يعني حفظ مقاصد الشرع ( الدين والنفس والعقل والمال والعرض) بضمان استمراريتها وتحصينها من الحاجة وتمتيعها بالمناعة في ارتباط بشرط الاكتفاء الذاتي واستهلاك المادة المحلية، بينما يظل الاستهلاك المنفرط هلاك وسقوط وهدر للوقت والجهد، بل للمستقبل بأكمله، وبهذه المعادلة الصعبة يجد الآباء اليوم صعوبة كبيرة في اختيار سبيل لتلبية احتياجات أبنائهم، سواء منها الضرورية أو الحاجية للوفاء بحق البنوة وتحصين الخلف من داء الحاجة والفاقة، ويحير الأولياء في تلبية طلباتهم المادية والمعنوية في ظل نظام معولم يغزو العالم، وظنا من فئة كثيرة بأهمية السير في توافق مع كل مستجد قد يضيف قيمة نوعية تفرد الأبناء وتجعلهم في مصاف المنفتحين على عوالم مثل عالم التكنولوجيا، يسقط البعض في خيار تمتيع الأبناء بما استجد من الألعاب الإلكترونية والتي تقدر دراسات عالمیة أن إيراداتها بجميع أنواعھا وجمیع منصاتھا، والأجھزة المستخدمة فیھا قد سجلت العام الماضي كاملا حوالي 135 ملیار دولار حسب مؤسسة Newzoo المختصة بالمؤشرات والإحصاءات العالمیة المتعلقة بالألعاب الإلكترونية (6)، مما يدل على حجم الخدمات والأموال الطائلة التي يستهلكها الطفل، باعتبار هذه الألعاب موجهة له بشكل مباشر، وباعتباره المستهلك الأول والأخير لها بمساعدة الوالدين، رغبة منهم في تنمية قدرات أبنائهم الحركية والعقلية، وصرفهم على ممارسة الشغب في البيوت أو الخروج إلى الشارع بما يترصدهم من مخاطر يسهل الأقران ترويجها.

هل حقا تستحق هذه المنتجات كل هذه الهالة المضروبة حولها ..؟ نعم، قد نستطيع الإجابة على هذا السؤال من خلال الفرضيات التالية :

أ) الألعاب الالكترونية وسيلة للتسلية: فهي تسلي الأطفال وتخلص الوالدين من الإزعاج المؤقت، وتفتح عوالم الخيال غير المبدع الذي يطلب المزيد كلما أشبع رغبة وحقق رصيدا افتراضيا كاذبا، مما يجعل الطفل منساقا يبحث عن المزيد، فيضيع الواجب والأهم، ويتعثر الطفل دراسيا، ويدمن على اللعب مما يجعله مستهلكا من الدرجة الأولى، لا يراعي وضعا اقتصاديا للأسرة، ولا هدفا مرسوما في مجاله الدراسي وحياته الاجتماعية، فتغيب بذلك الرغبة في صناعة الذات، وتصبح كل الأمور استثنائية ثانوية يُسوَّف ُ وقت تحقيقها فترمى في سلة الآمال والأحلام.

ب) الألعاب الالكترونية وسيلة لإثبات الذات والانتصار عليها وهزيمة الآخر، شرطيا كان أو أبا أو وليا أو لصا أو شبحا، وتكرار مشاهدة أنواع العنف وتطبيع النفس الإنسانية على الصراع وتبليد الإحساس، وعدم تحرك المشاعر لمناظر القتل والدماء والعنف والدمار، وفي هذا تدمير للجانب الإنساني في البشر، وترويج لقانون البقاء للأقوى، بعيدا عن مقاربات الرحمة والتكافل والتضامن، وإشهارا لقانون الغاب الذي قد يكون أرحم وأكثر إنسانية، مما هو حاصل في عالم البشر .. حينها يتحول الأمر إلى ممارسة سلوكية خطيرة تكتسب عن طريق الإثارة والتقليد والتعزيز وتتخذ لحل المشكلات بعد إضفاء الطابع الإنساني والشرعي عليها مؤثرة من حيث لا ندري على أمن الفرد والجماعة.

كيف تسللت السياسة إلى ألعاب الفيديو ..؟7

وعيا من أصحاب القرار بأهمية التنشئة الاجتماعية ودورها في تدجين وترويض طبائع الإنسان .. خصوصا، إذا كان طفلا فتَحَت البيداغوجيات والمقاربات والنظريات الاجتماعية والنفسية بوابة كينونته ومعرفته، واستثمارا في المستقبل القريب والبعيد بطريقة تعتمد تغيير القناعات وتحرص على تثبيت الأفكار الممزوجة بعبير الدين والأيديولوجيا .. فكر الراشدون في أدلجة محتوى هذه الألعاب ورد في مقالة لسارة درويش سرد لمجموعة من الألعاب التي جسدت هذا المغزى ومنها:
لعبة “ريد اليرت التي تجسد الصراع بين الاتحاد السوفيتي ودول الحلفاء، ولعبة ثلاثية الأبعاد أطلقها حزب الله باسم “الدفاع المقدس” لمحاكاة قتال عناصره في سوريا ضد من وصفهم بـ”التكفيريين”، ولعبة أطلقها تنظيم داعش سنة: 2014 باسم “صليل الصوارم” بهدف “رفع معنويات (المجاهدين) وتدريب الأطفال والمراهقين على قتال قوات التحالف الغربي والإقليمي”، ولعبة “اقتل الإرهابي” التي طرحتها القناة السابعة العبرية على الإنترنت لتنشئة الأطفال على الرغبة في قتل من وصفتهم بـ”المخربين الفلسطينيين”، وفى سنة 2014 حذفت “جوجل” لعبة شبيهة تروج للعدوان الإسرائيلي على غزة، تحت اسم “اقصف غزة” وفيها يسقط اللاعب القنابل على مقاتلي المقاومة الفلسطينية، ويحاول تجنب صواريخهم، وصرحت الشركة وقتها أن تطبيق اللعبة ينتهك سياستها التي تمنع عرض أي محتويات تحث على الكراهية أو العنصرية أو العنف، وفى المقابل انتبه الفلسطينيون إلى السلاح الذي يستخدمه العدو ضدهم، فطوروا بدورهم عدة ألعاب فيديو تدافع عن القضية الفلسطينية وتحاول توصيل صوتهم للعالم، كان أبرزها لعبة “تحرير فلسطين”8

إن خطورة هذه الألعاب تبدو جلية فبها يصبح الطفل مستعدا لخوض حرب لا يد له فيها، وبها يصير الطفل تحت رحمة مؤسسة تربي إلى جانب مؤسسات أخرى تتَدافَع لتحصيل المشروعية، وما يعقد الأمر أكثر هو استنادها إلى مدارس علمية كالسلوكية للتأثير وتحصيل المراد.

2) استهلاك القيم عند الأطفال

القيم: جمع قيمة وهي ما تثمن بها الأشياء أو تصنف بها مراتبها ودرجاتها، وما تقاس بها المواقف أو يفاضل بينها”(9)، فهي إذا صلب الهوية ودرعها الذي يستعصي على الانحلال ويقوي مناعة الأمة ضد الأطماع الراغبة في التطبيع والاحتلال الناعم المفضي إلى هدر الكينونات وإباحة الخصوصيات وتدنيس المناعة بمضادات تدجن وتروض وتستعبد، ولا خطر أكبر من أن تخاطب في أمة ناشئتها بما تشتهي وتستلذ، وهي ضعيفة المناعة كثيرة الوداعة سهلة الاستعباد راغبة في الاستحواذ وضم كل شيء إلى حاضنتها لتستمد قوتها، وتعبر عن استقلاليتها، للإعلان عن وجودها وشق عصى الطاعة في مواجهة الراشدين الغافلين عن خصائص الطفولة و طبائعها.

يبقى الطفل في أغلب أحيانه كائنا مستهلكا ولا ينتظر منه إنتاج سلعة أو خدمة إلا في مواضع استثنائية تبهر العامة وتجعل من هذا الطفل معجزة وأيقونة يتغنى بها الإعلام والساسة ويضعونها في الواجهة كرمز لجودة التكوين والتوجيه والتعليم والتعلم بالبلاد، ويبحث كل طرف على تبني جهد هذا الإنجاز ونسبته لنفسه اعترافا بأن هذا الطفل لا يمكن له أن يقوم بما قام به إلا تحت أنظار الراشدين ونصائحهم وتوفير الموارد اللازمة لذلك، لكن من السهل الاعتراف بعدم قدرة الأطفال على إنتاج قيم وإخراجها من العدم إلى الوجود، ولهذا كله يبقى الطفل مكونا مجتمعيا قابلا للتطبع بهذه القيم، سواء كانت أصيلة يقبلها المجتمع ويستسيغها أم كانت مستوردة هجينة يُتضرع بها للتعبير عن الانفتاح والتحرر.
إن استيراد القيم وتبنيها من طرف الطفل، إما عن طريق الإعلام أو الاحتكاك بالآخر تحت وطأة موجة العولمة التي لم تترك بابا إلا طرقته، يبقى أمرا عسير المواجهة إذا ما نظرنا إلى مساربه ومداخله المتنوعة بين اللباس والحلاقة والأكل والشراب ونمط العيش بصفة عامة، وبذلك يسير نهج التغيير بطريقة يصعب التحكم فيها، فلا يبقى اليوم كالأمس بفعل الزخم الهائل من هذه القيم البرانية التي تعدم روح المادة الأولية الوطنية، وتقتل الإنتاج المحلي في مهده، وتفرض إعادة النظر في سلم القيم المحددة للهوية تحت الإكراه المرغوب به من طرف الجهات اللاعبة بخيط دمى العالم.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق
إغلاق