أخبارالدين و الناس

زكاة الفطر بين المباني والمعاني

ألمانيا / ذ. محمد بوبكري

BOUBAKRI 2إن من الشعائر الدينية، والعبادات الربانية، المقترنة بفريضة الصيام- إلى جانب ما ألفه المسلمون طيلة شهر رمضان من قيام وقراءة القرآن- فريضة زكاة الفطر، والتي فرضت في السنة الثانية من الهجرة النبوية، وفرضها لا يخل من مقاصد وغايات، وأهدافا ومرامي، أفصح عنها الشرع الحكيم؛ حيث قال:

طهرة للصائم من اللغو والرفث، وطعمة للمساكين، وإغناءً لهم عن ذل الحاجة والسؤال يوم العيد

وهذه الزكاة ليست كزكاة المال التي يشترط فيها ملك النصاب وحولان الحول وسلامته من الدين، بل هي زكاة على الرؤوس، أي على الأفراد، بمعنى أنها تجب على كل فرد مسلم مكلفا كان أم غير مكلف .. المهم أن يكون مسلما .. فقد أخرج الإمام مسلم في صحيحه عن عبد الله ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم فرض زكاة الفطر من رمضان صاعا من تمر أو صاعا من شعير، على كل حر أو عبد، ذكر أو أنثى من المسلمين، واتفق الأئمة جمهور العلماء على أن الزوج مسؤول عن زكاة من يعول.
وهناك فروع خلافية لا مجال لذكرها هنا .. إذ، ليست هي المقصد من هذه الكلمة الموجزة، مثل هل تجب على الجنين أم لا ..؟ وهل تجب على الزوجة الكتابية التي لم تصم ..؟وهل يجوز الزيادة على المقدار أم لا يجوز ..؟ وهل يجوز إخراجها من صنف من الطعام غير الأصناف المذكورة ..؟ وغير ذلك من الفروع الخلافية.
إن كثيرا من الناس، سواء من الذين أوتوا ملكة الحفظ وجمع النصوص، أومن الذين يقرؤون في الكتب، ويتصفحون صفحات الإنترنت، أو ممن لا علاقة له بذلك أصلا، أصبحوا اليوم يرددون مسألة خلافية بين العلماء منذ قرون وقرون .. ولكن، يجهلون مقاصد الشرع في ذلك، لأنهم يعوزهم فقهه، أي فقه مقاصد الشرع، وفقه النصوص، وفقه التنزيل، وفقه الترجيح، وهي أنواع من الفقه لابد من كسبها، حتى يتسنى لمن أراد الحديث في أحكام الشرع الإسلامي الحنيف، ويجنب عموم الناس الخلافات الفقهية التي هم في غنى عنها، والتي قد تُلبس عليهم دينهم.
فقد أصبح الكثير اليوم يقف عند ظواهر النصوص، دون أن يكلف نفسه الغوص في باطنها وما تحتويه هذه النصوص من معاني، وما تحمله من دلالات، مع العلم أن مما هو مقرر عند علماء الشرع: “أن العبرة للمقاصد والمعاني، لا للألفاظ والمباني” وهي قاعدة مهمة من القواعد التي يستحضرها الفقهاء، والعلماء أثناء استعمال النصوص الدينية، بل وأثناء عملية استنباط الأحكام الشرعية فيصبح هؤلاء حبيسي ظواهر النصوص، ويضيقون واسعا .. ومن أمثلة ما أثاره هؤلاء من المسائل الخلافية، مسألة إخراج زكاة الفطر قيمة، فساروا يسوقون النصوص، وأقوال الأئمة السابقين فيها، وأنه لا يجوز إخراجها قيمة، بل لابد أن تخرج عينا، ومن الأصناف التي ذكرها النبي صلى الله عليه وسلم، كل ذلك تعصبا لا إفادة، ولو كان القصد عندهم الإفادة، لذكروا الوجه الآخر الذي قال بجواز إخراجها قيمة، ترجيحا لمصلحة العباد، وتحقيقا لمنفعتهم.
ومعلوم أن ممن قال بجواز إخراجها عوضا، وكان ذلك قبل الأئمة الأربعة: معاذ ابن جبل رضي الله عنه، حين كان في اليمن، ومعاذ ابن جبل لا يجهل احد منزلته في الفقه، وهو اعلم زمانه بالحلال والحرام، كما قال النبي عليه الصلاة والسلام فيه، فكان يأخذ قيمتها قماشا وألبسة.
وكذلك معاوية ابن أبي سفيان لما ولي الشام كان يأخذها قيمة، لأنه أنفع للناس، وهو الحال الذي كان عليه الخليفة الراشدي الخامس عمر ابن عبد العزيز، وهو قول الإمام الثوري وأبو حنيفة، وأصحابه وأبو الحسن البصري، وإسحاق ابن راهويه، وعطاء، ثم إن الذين يقولون إن مالكا أخذها وشدد في أخذها عينا، ولم يجز إخراجها قيمة، هل غاب عنهم قاعدة مراعاة الخلاف التي يقول بها المالكية عموما، والإمام مالك رحمه الله خصوصا والتي تعد واحدة من القواعد التي بني عليها المذهب المالكي ..؟! أم إنهم يتغافلون عنها ..؟
وعلى كل حال، فإن الأمة اليوم، بحاجة لما هو أيسر لا لما هو أعسر، وإن الأيسر في زمان الناس هذا هو القيمة لا العين، وأن الدين مبني على التيسير لا على التعسير، وإلا فما معنى أن تجتمع لدى الفقير أو المسكين ألوان وأنواع من الأطعمة ربما تكلفه وتشق عليه، بدل أن تفرحه وتخفف عنه الضيق ..؟! وقد أصبح اليوم في غنى عنها، لتغير الحياة، وتغير الظروف .. ومعلوم أن الأحكام الفقهية تتغير بتغير الزمان والمكان والحال.
إن التوقيفي هو الزكاة لا مقصدها، فمادام أن الناس لم يختلفوا في الأصل، فلا بأس إن اختلفوا في المقصد والمعنى .. والنبي صلى الله عليه وسلم إنما فرض الزكاة من الأطعمة، لأنها كانت هي المتداولة أكثر من غيرها، ولاحتياج الناس إليها، مع حضور النقود وندرتها.
ليس هناك أي معنى للتعصب المذهبي، إلى درجة التطرف، والانحراف، والخروج عن إجماع علماء المذهب المعاصرين، الذين قالوا بجواز إخراجها قيمة.
وأخيرا أقول: إن الجمود على ظواهر النصوص، دون تفجيرها لإخراج مقاصدها، هو منهج يعطل جملة من المصالح على العباد، أضف إلى ذلك إن الناس اليوم بحاجة إلى فقه التنزيل أكثر من حاجتها إلى إحضار الدليل .. وإن الجهل بمآلات الأفعال قد يجعل الحكم يؤول إلى عكس مراد الشرع سبحانه، فرب حكم قام به المكلف من حيث كونه مأمورا به لكنه آل بعد ذلك إلى عكس مراد الشارع، لسوء تنزيله، ولعدم مراعاة أحوال تنزيله؛ تماما كمن يعطي زكاة الفطر عينا أي من القمح أو الشعير أو الذرة أو الأقط وهو اللبن المجفف، أو التمر أو الزبيب أو الحنطة، لطالب من طلاب العلم اليوم لحاجته ولانقطاعه عن أهله وغربته، وهو يعيش في أوربا أو أمريكا أو كندا، أو حتى في البلاد الإسلامية، دون أن يراعي الغالب على قوت أهل البلد وما يتعاملون به، فإن مثل هذا التصرف سيكلف الطالب، ومن على شاكلته كيف يتصرف فيه هذه الأصناف إن أخذها، فهي في الغالب ودون شك لن تحقق له نفعا مثل لو أعطيت له نقدا، يسدد بها حاجته، وتتم عليه فرحته .. وتبقى زكاة الفطر بين المبنى والمعنى، فقد يكون في ظرف العين أنفع والنقد لا، وقد يكون في أخرى النقد أنفع والعين لا، بحسب الظروف والأحوال .

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق
إغلاق