

* سعيد ودغيرى حسنى
ترددت كثيرا قبل أن أكتب، لأن اللحظة التي انفجرت فيها الحكاية لم تكن عادية، كانت مثل صخرة تسقط في بئر قديم فيهتز الماء الساكن، ويصعد الصدى من عمق بعيد يكشف ما كان محجوبا، وما كان الجميع يظن أنه سيبقى وراء الجدران .. لكن، الجدار نفسه انشق وانساب الضوء مثل نصل رقيق يقطع سطح الظلام ويفضح المخبأ بلا إذن، وها نحن أمام مشهد لم يكن معدا للنشر، خرج مثل اعتراف مباغت لا يمكن إعادة ابتلاعه ولا إخفاء ارتعاشه وهو يقول أكثر مما قيل، ويكشف أكثر مما توقعت الأعين
التسريب، لم يكن مجرد فيديو، بل لحظة عارية تخلت فيها الكلمات عن أقنعتها وأذنت للكواليس أن تعبر العتبة وتصل إلى الناس بلا وسطاء .. خرج الصوت كما هو وخرج الموقف كما هو، وخرجت اللغة كما قيلت لا كما يجب أن تُقال ليكتشف الرأي العام فجأة أن الغرفة التي توصف ببيت الأخلاق المهنية لم تكن دائما كما تقدم نفسها، وأن النقاش الذي يفترض أن يكون ميزانا صار في بعض لحظاته طعنة في الميزان نفسه، وأن المجلس الذي يحمل لقب الضمير وجد نفسه أمام ضمير أكبر هو ضمير المجتمع
وما إن انكشف المستور حتى اهتز البيت المهني اهتزازا غير مسبوق لم يسقط الجدران .. لكنه، جعل السقف يرتجف، وجعل الأسئلة تتدفق كيف لمؤسسة بهذا الحجم أن تتعرى بهذه السرعة، وكيف لصوت مسجل أن يقلب طاولة كاملة، وكيف تتحول السرية من قوة إلى عبء ومن حماية إلى شك ومن باب مغلق إلى باب يجب إعادة صنع مفاتيحه ..؟ لأن القديم لم يعد يناسب زمنا تكشف فيه الأشياء بلا انتظار
ثم جاء السؤال الأعمق، أين يبدأ الخطأ وأين ينتهي، وهل يكفي إصلاح صغير، أم أن المعبد يحتاج إلى ترميم شامل، أم أن القضية تتجاوز الترميم وتقترب من إعادة كتابة القواعد ..؟ فالبيت الذي يهتز بهذه القوة يحتاج إلى هندسة مختلفة وإلى نوافذ يدخلها الضوء وإلى جدران لا تُبنى على الظن، بل على الصدق وعلى احترام مهنة تتنفس بالحرية لا بالسرية
وبعد التسريب، تشكلت ثلاثة مسارات تمشي جنبا إلى جنب .. مسار المساءلة الذي يبحث عن من سرب ..؟
ولماذا وكيف قفز السر إلى العلن ..؟
ومن سمح للظل بأن يهرب من موضعه ..؟
ومسار الإصلاح الذي ينادي بإعادة ترتيب المجلس، وبناء القانون وتحديد الصلاحيات، ومسار الثقة وهو الأصعب، لأن الثقة حين تسقط تحتاج زمنا طويلا كي تعود، وتحتاج فعلا لا بلاغا ونزاهة لا تبريرا وشفافية لا خوفا من الضوء
وفي النهاية، ما حدث ليس سقوط مؤسسة، بل سقوط وهم، وليس نهاية مرحلة، بل بدايتها، وليس فضيحة للفرجة، بل درس لإعادة التفكير .. فالضمير المهني حين يتلقى صدمة حقيقية لا يموت، بل يستيقظ ويفتح عينيه أكثر، ويقول للصحافة إنها لم تولد لتعيش في الظلام، وإن الضوء مهما كان قاسيا أنفع من ألف ستار، وإن المستقبل لا يحترم من يختبئ، بل من يواجه ومن يعترف ومن يبني على الحقيقة لا على الصمت
*كاتب رأي




