أخبارمنبر حر

ثم اهتديت ..!

ذ. عبد الرحمان مجدوبي

كم أمقت النسيان حين يغمرني أرقا، ويجعل الآفاق نفقا، والنهار غسقا، حين يردني إلى الوراء تجرني كلاليب الفرص الضائعة، وتدفعني عسرا أنوار اللحظات الماتعة، مسافرا في وجوه التائهين في بريق بسمات النصر، آمُلُ العودة، فَتَخْبو ضحكاتهم أمام عبوسي وضيق أنفاسي، وتُصَد أبوابهم خوفا من فال بزغ غُروبا، وهد دُروبا، وأفرغ جيوبا تخشى النحْس، وتخاف المَس الذي يمسخ العرس مأثما، ويجعل النار بردا وسلاما كما هي أطرافي المتعرقة خوفا من المجهول .. وإنني لأشد فرحا حين تتحول المحنة إلى منحة، فأجعل الأمر قضاء وقدرا يسوقني إلى سوق البهجة، ويمسح الصفرة والقتامة على وجهي الذي كاد يستسلم لألوان الكآبة ضعفا ومهانة، قال اللـه تعالى: [قَالَ أَرَ‌أَيْتَ إِذْ أَوَيْنَا إِلَى الصَّخْرَ‌ةِ فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ وَمَا أَنسَانِيهُ إِلَّا الشَّيْطَانُ أَنْ أَذْكُرَ‌هُ ۚ وَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ‌ عَجَبًا (63)، قَالَ ذَٰلِكَ مَا كُنَّا نَبْغِ ۚ فَارْ‌تَدَّا عَلَىٰ آثَارِ‌هِمَا قَصَصًا (64)، فَوَجَدَا عَبْدًا مِّنْ عِبَادِنَا آتَيْنَاهُ رَ‌حْمَةً مِّنْ عِندِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِن لَّدُنَّا عِلْمًا ﴿65﴾] الكهف

ما يجعلني أمقت النسيان هو جهلي كونه دربة تمكن من العيش بحرية، وتفرغ الأدمغة المتخومة بآلام المعيشي اليومي من فرثها الدامي، وكثرة الذكريات الحزينة التي تجرد من أبسط أسباب الكرامة، بإتباع أسلوب الهتك بالتنقيط، لتفتض السيادة دون سماع طلقة، كما أقر جهلي كونه فنا للتماهي والتباهي بالقلق والهزيمة والاستعباد وألوان التفقير والتحقير والتهجير من وطن يكاد يكون نحن، نساء ورجالا وأطفالا، ألوانا وترابا، يكاد يذرف دمعا أسفا على آذاننا الصماء زينة وخوفا من الأمن والحق الذي عهدناه يكمم أفواهنا المرتدية كساء الحمرة خجلا، وأهدافنا النطيحة غباء، و وعودنا المتردية عبثا، ويقطع الأيادي الممدودة، ويعقد على الأطراف المبسوطة نفثا وسحرا وشعوذة تجد لها سندا في نصوص حيكت بمداد التآمر غفلة

ما يجعلني أمقت النسيان هو عجزي عن إغماد يراع الثورة في ثغره الدامي، الذي ينفث كبريتا على أجساد الضعفاء، ويتقيأ صديدا على موائدهم المتواضعة التي لا تكف تمد يد العون مستجدية حقها المسلوب المغمور في وحل النسيان، وفي دغدغات النشرات الإخبارية الشعبوية القائمة على التبسيط والتلاعب بأفكار المنسيين التواقين إلى الصدقة والإحسان، بدل تشييد مصاعد الارتقاء في سلم التحول الاجتماعي والاقتصادي الذي يبدأ من المدرسة ويترعرع فيها، فيرسم حدودا حجرية صلبة بين الخضوع والدروشة، وبين القدرة على امتلاك الحق في العيش بكرامة

ما يجعلني أمقت النسيان هو يقيني أن الناسي لا يمكن له الاحتفال بمعاني الأرض والانتماء والكرامة والحرية، ليعدم الذاكرة ويعانق الإنصاف والمصالحة، ويكتب تاريخا بقلم المركز، ويعدم تاريخ الطبقات الهامشية الهشة التي تعيش في الحاشية، ترثي البتر والمحو والطمس، وتلبس زي الصيف في اليوم الشاتي، وزي الشتاء في حر الصيف

ما يجعلني أمقت النسيان هو اندهاشي من قدرته على تحويل الأرض الجرداء القاحلة جنة خضراء رابية، وقلب المواقف الثابتة ببسمة أو لمسة من غانية، وحنكته في ترويض الأفواه والأقلام والأمواج العاتية، لتدق “طعريجة” من طين وجلد، بدل دق مسمار من حديد في الذاكرة، وتلوك التاريخ بأريج عيون خضر زاهية، بدل أن تدوس خرافاته بأرجل حافية، وتحرر فراغاته ونتوءاته من المياه الراكدة العكرة الآسنة، التي تصيبنا بالإسهال الممزوج بوجع الخوف وقصور الحيلة والغربة الموحشة الساكنة فينا، الرامية بنا بعيدا عن أرواح تشتهي بسماتنا، و وطن حر يشكو رحيلنا البارد ودمعتنا المبتسمة وضحكاتنا الحزينة المسافرة في أرض الغربة بلا رجعة

ما يجعلني أمقت النسيان هو كونه دليل على قصور ذاكرتي وعدم فعاليتها في استحضار كل المواقف تعلما واعتبارا واختصارا للمسافات، هذا القصور لا أجد له من مبرر سوى كونه تربية تجعلني حديث الولادة دائما، ليس لي ماض أقتبس منه واستنير بضيائه، مبرر يحدثني بكون النسيان ضرورة نفسية تجعلنا أحرارا من قيود الماضي لنتعايش مع الحاضر ونقبله، إن النسيان هنا ضرورة  لتحقيق حرية الإنسان .. إذ، أن تردد الذكريات يجعلنا عبيدا لا سلطة لنا عليها، فنضيع بين الماضي والحاضر، ولا ننفك تجرنا هذه الكلاليب إلى الوراء غير مكترثة بما تحدثه في حياتنا من شرخ، وما تجلبه لنا من تعاسة وفقر في العزم على الإقبال على الحياة والشرب من معينها الصافي ومائها النقي الطاهر

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق
إغلاق