أخبارمجتمع

مأساة شهيد في ذاكرة وطن بلا ذاكرة

 

* ابراهيم العيرج

اسمي اسمٌ لم يعد يتردد كثيرًا .. ذات يوم كان يملأ البيوت فخرًا، يتردد على شفاه أمي دعاءً، وعلى لسان زوجتي همسًا دافئًا .. الآن، تلاشى كأنه لم يكن .. أتذكر تلك الأيام بوضوح، كأنها البارحة .. صوت القائد يدوي في آذاننا حماسة، و وجوه رفاقي تشتعل عزيمة .. كنا شبابًا، نحمل في قلوبنا وطنًا أكبر من أعمارنا، وأحلامًا تلامس السماء، لم نتردد لحظة عندما نادى الواجب، تركنا خلفنا دفء الأهل، وضحكات الأطفال، وأحلام المستقبل، لنلبي نداء الأرض

في ساحات الوغى، رأيت الموت بأم عيني، شممت رائحة البارود والدماء، وعشت لحظات ظننتها النهاية مرات لا تحصى .. لكن، في كل مرة، كان حب الوطن يمنحني قوة خارقة، وإيماننا بالقضية يضيء لنا الدرب وسط الظلام ..  قاتلت بشراسة .. دافعت عن كل شبر من أرضنا بروحي، وشاهدت رفاقًا يسقطون حولي كالأبطال .. تاركين خلفهم قصصًا من البطولة والشجاعة

سقطت أنا أيضًا .. لكن، سقوطي كان مختلفًا، لم أسقط برصاصة غادرة في معركة شرسة، بل سقطت وأنا أرى وطني ينتصر، وأنا أظن أن تضحياتنا لن تذهب سدى .. كنت واثقًا أن اسمي سيُذكر باعتزاز، وأن عائلتي ستلقى الرعاية والتقدير الذي تستحقه .. لكن، الحياة يا سادة يا كرام، كثيرًا ما تأتي بما لا نتوقع

شبحٌ يراقب من بعيد

مرت السنوات، وأنا أراقب من بعيد، روحًا شفافة لا يراها أحد .. رأيت زوجتي تكافح وحدها لتربية أطفالنا، تجاهد لتوفر لهم لقمة العيش بكرامة ..  رأيت دموعها تنهمر في الليل، وشكواها الصامتة تخترق صمت الكون .. رأيت أطفالي يكبرون يتامى، يحملون عبء غيابي، ويتساءلون في عيونهم عن أب لم يعرفوه إلا من خلال صور باهتة، ورأيت شيئًا آخر، كان يكسر قلبي ألف مرة في اليوم .. كان يلح عليّ في كل لحظة أين ذهبت تضحياتي ..؟

أين حقي وحق عائلتي ..؟

لم يُذكر اسمي في قوائم الشرف، لم تُروَ قصتي للأجيال القادمة، لم تحصل زوجتي وأطفالي على أي تعويض أو تقدير، كأنني لم أكن، كأن دمي لم يُرق على هذه الأرض الطاهرة .. شعرت بالظلم ينهش روحي، وبالمرارة تتسرب إلى أعماقي

لم أطلب جاهًا أو سلطانًا، كل ما أردته هو أن يُحفظ لأبنائي حقهم في حياة كريمة، وأن يُذكر اسمي ولو بكلمة عابرة، كشاهد على زمن مضى، وعلى تضحيات قدمت فداءً للوطن .. لكن، الصمت كان هو الجواب .. صمت مطبق، كأنه ابتلع اسمي وذكراي إلى الأبد

همسات في ليلٍ طويل

 

أحيانًا، في الليل الهادئ، عندما ينام الجميع، أحوم حول زوجتي وأطفالي، أحاول أن ألمسهم، أن أهمس لهم كم أحبهم، كم أنا فخور بهم .. لكنهم، لا يشعرون بوجودي، لا يسمعون صوتي .. أنا مجرد ذكرى باهتة في زوايا الذاكرة، شهيد منسي، لم ينل حتى حقه في الذكرى

هذه قصتي، يا سادة يا كرام .. قصة شهيد ضحى بروحه من أجل وطنه .. لكن، وطنه نسيه .. قصة عائلة دفعت الثمن غاليًا، وما زالت تدفعه بصمت و وجع .. أتمنى فقط أن تصل كلماتي هذه يومًا ما إلى آذان من يهمهم الأمر، لعلهم يتذكرون أن هناك أرواحًا بذلت الغالي والنفيس، وتستحق على الأقل بعض الإنصاف

فهل من مجيب لهذه الصرخة الصامتة، قبل أن يبتلعها النسيان إلى الأبد ..؟

* ابن شهيد حرب الصحراء المغربية 1975 و1991

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق
إغلاق