
أنوار المولد النبوي وإمارة المؤمنين في المغرب

بقلم – سعيد ودغيري حسني
يطل عيد المولد النبوي في المغرب كفجر جديد يشرق على القلوب قبل أن يشرق على الآفاق .. هو موعد مع الرحمة المحمدية التي جعلها الله نورا يسري في التاريخ وفي الوجدان .. في هذه الليلة المباركة تتزين المدن والقرى وتتوشح الزوايا والبيوت بحلة الذكر والمديح، وتتعانق الأرواح في حضرة واحدة، حيث يتلاشى البعد وتبقى القلوب تسبح في بحر الصفاء
المغربي حين يحتفل بالمولد لا يحتفل بمناسبة زمنية عابرة، بل يدخل في طقس عميق يربط الأرض بالسماء، يجدد العهد مع النبي المصطفى صلى الـلـه عليه وسلم، يردد قصائد البوصيري وأصوات المنشدين، ويذوب في معاني الصلاة على الحبيب حتى تصبح الكلمات جناحين والروح طائرا يبحث مقام القرب .. الأطفال يضحكون والنساء يوزعن الحلوى كأنها ورود بيضاء .. الرجال يجتمعون في حلقات الذكر، حيث ينساب النور في الوجوه، وكل بيت يصير منارة وكل قلب يصير محرابا
وفي الزوايا الصوفية تنبعث الأذكار حتى الفجر .. الطبول تهمس بإيقاع الرحمة، والدفوف تنادي على القلوب السائرة .. هناك، حيث يجلس المريدون والسالكون .. تتفتح أسرار الذكر وتُسكب على الأرواح خمرة المحبة في لحظة ينمحي الزمان والمكان، وتبقى فقط أنوار الحبيب المصطفى تشع على الجميع
لكن، الاحتفال بالمولد النبوي في المغرب لم يكن وليد اليوم، فمنذ الدولة المرينية في القرن السابع الهجري أصبح هذا العيد موعدا رسميا للأمة .. اختار المرينيون أن يجعلوا ليلة المولد عيدا يلتف حوله الشعب والعلماء والسلطة .. كان الموكب يبدأ بالمدائح والابتهالات ويستمر بالسهرات الروحية، وكان السلطان يرعى هذه الاحتفالات بنفسه ليجعل من المولد رمزا للوحدة الروحية والسياسية، ومع مرور الزمن صار المولد جزءا من هوية المغرب الدينية والثقافية
ثم جاءت العهود اللاحقة، السعديون، فالعلويون، ليواصلوا هذا النهج .. فالمولد لم يكن فقط لحظة فرح شعبي، بل كان مناسبة رسمية تُبرز فيها الدولة المغربية دورها كحامية للملة والدين، ومن هنا تبلورت علاقة خاصة بين إمارة المؤمنين واحتفالات المولد .. علاقة تجعل من هذه الذكرى لحظة جامعة للأمة كلها
لا يكتمل المشهد الروحي إلا بحضور الطقوس الشعبية، التي صنعت وجدان المغاربة عبر القرون .. في ليلة المولد، تعلو أصوات عيساوة بالدفوف والطبول وتصدح حلقات كناوة بأنغامها العميقة التي تشبه نداء الروح، ويصدح المنشدون في الأسواق والدروب بقصائد المدح والسماع، فيتحول المغرب كله إلى محراب واحد كبير، تختلط فيه الألوان الشعبية بالنفحات الصوفية وتذوب فيه الحدود بين الزاوية والساحة .. إنه احتفال بالحياة والروح في آن واحد
وإذا كانت مراكش تعرف بموكبها الكبير حول الكتبية، وفاس تضيء لياليها بأصوات القراء والمنشدين في حضرة القرويين، ومكناس تعانق زواياها أصوات السماع والإنشاد، وتطوان تتحول إلى فضاء للمدائح والأنوار، فإن تارودانت تتلألأ بسحرها الخاص، حيث يكتظ سوقها العتيق بالمريدين والزوّار، ويعانق الذكر والأهازيج أزقة المدينة القديمة، فتغدو كل زاوية محرابا للروح ومكانا لتجدد المحبة النبوية

أما فجيج، فهي حالة فريدة، يحج إليها الفجيجيون من كل حدب وصوب ليقيموا سبعة أيام من الاحتفالات في القصور السبع، فيتحول المكان إلى لوحة سماوية تتعانق فيها الأهازيج الشعبية مع حلقات الذكر والمديح، ويتوزع الناس بين القصور كأنهم يطوفون بأجنحة الروح على مدارات النور، فتذوب فيها الحدود بين الزمان والمكان، ويغدو المولد عيدا يجمع بين الأصالة الصحراوية والوهج الروحي
كما تزداد الفرحة في الأقاليم الصحراوية، حيث تنتشر حلقات الذكر والأنغام الشعبية بين الواحات والقرى، ويجتمع الناس في فضاءات مفتوحة لتبادل المدائح والابتهالات، فتتحول الصحراء بأكملها إلى لوحة حية من النور والروح، ويشعر المريدون بأنهم يقتربون أكثر من روح النبي المصطفى عليه السلام وسط نسيم الرمال وسماء الصحراء الصافية
إمارة المؤمنين في المغرب ليست مجرد مؤسسة سياسية، بل هي جسر بين الماضي والحاضر .. هي الحصن الذي يصون لهذه الاحتفالات معناها العميق .. أمير المؤمنين هو الضامن لوحدة الصف والراعي للطقوس الروحية، تحت رعايته تتجدد تقاليد المولد في المساجد الكبرى والزوايا، وتقام المواكب الرسمية التي تعانق الاحتفالات الشعبية في انسجام عجيب .. وهكذا يظل المولد عنوانا للوفاء والولاء وفصلا من فصول السيرة المغربية الممتدة عبر القرون
المولد في المغرب إذن، ليس مجرد ذكرى دينية، بل هو سفر في التاريخ .. من أيام بني مرين إلى أيامنا هذه .. هو رسالة تؤكد أن المحبة النبوية لم تنطفئ قط، وأن الأمة المغربية تحت ظل إمارة المؤمنين باقية على العهد تتغذى من النور المحمدي وتتشبث بالجذور الصوفية التي صنعت شخصيتها
بهذه المناسبة المباركة، أرفع أسمى آيات التهاني والتبريك إلى مولانا أمير المؤمنين، جلالة الملك محمد السادس نصره الله وإلى الشعب المغربي الوفي، وإلى كافة المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها .. سائلا المولى عز وجل أن يجعل هذا العيد الميمون موسما للرحمة والسلام، وأن يمد الأمة الإسلامية بالوحدة والنور والهداية
هكذا، يذوب المغربي في حضرة المولد حتى وإن لم ينظم بيتا من الشعر، فالقلب هو القصيدة والدمعة هي الوزن والروح هي القافية، والكل ينتهي في بحر واحد هو بحر المحبة المحمدية الذي لا ضفاف له