أخبارالدين و الناس

مجادلة علمانيين .. تـــابع

 

ذ. الصديق بزاوي

الدكتور بزاوي

ربط الدين بالسياسة يؤدي الى الفتن

لعل هذه النظرة الموجزة تعطينا فكرة عن البيئة الاجتماعية التي تشكل أحد العوامل الرئيسية لوقوع (الفتنة الكبرى) التي تعرضت لها – مع الأسف الشديد – الدولة الإسلامية الفتية. وإن هذا العامل يرجع بالأساس إلى العصبية القبلية الموروثة عن العصر الجاهلي، أي فترة ما قبل الإسلام .. وأن السلطة السياسية آن ذاك لم تستطع التخلص من هذه الآفة .. وأن تحميل تحكيم شرع الله مسؤولية هذا الانحراف السياسي لا أساس له .

إن الإسلام يبغض العصبية أشد البغض، كيف لا، وهي التي قال عنها النبي الصادق المصدوق (ص) :” دعوى الجاهلية دعوها فإنها منتنة ” (17 ) .. وإذا كان العلماني يجعل (من الفتنة الكبرى) إحدى الحجج التي يستند إليها للحكم بعدم إمكانية إقامة دولة الشريعة، فإن ذلك بعيد عن الصواب تبعا لما تم توضيحه .. وأن الصواب هو الإقرار بكون كل انحراف عن ” المحجة البيضاء ” والتي ليلها كنهارها، وذلك ما حدث في عهد الخليفة معاوية، لن يؤدي إلا إلى الضلال وإلى الخسران، وإلى قيام فتن وصراعات هامشية تضعف الأمة وتدخلها في دوامة من الفرقة.

وفي هذا الصدد، نشير كذلك إلى تغييب فريضتي الشورى والعدل، وهما أساس الملك والتي من شأنهما ألا تجعلا السلطة حكرا على أقلية عددية أو عصبية دون أخرى .. وأن تحولا دون إسناد الحكم لغير أهله، ودون تمكين أقلية من السيطرة على الأمة ومصالحها العامة، كما تجدر الإشارة في هذا الصدد إلى خطبة حجة الوداع التي حذر فيها النبي عليه السلام من التفرقة والاقتتال، حيث خاطب أتباعه من المسلمين قائلا : “فلا ترجعن بعدي كفارا يضرب بعضكم رقاب بعض، .فإني قد تركت فيكم ما أن أخذتم به لم تضلوا بعدي .. كتاب الله وسنة رسوله .. “، ومن خلال هذا الأمر النبوي ، نستنتج وجود قاعدة شرعية مفادها أن الاقتتال بين المسلمين صفة من صفات الكفار. واعتماد مفهوم المخالفة يقضي بأن المسلمين يجب عليهم ألا يتقاتلوا، وأن تقاتلهم قد يخرجهم من الإسلام ويجعلهم كفارا .. وبناء على ذلك، فإن سبب الفتنة الكبرى ليس هو تحكيم شرع الله كما بدعي العلماني، وإنما السبب على العكس من ذلك، يتعلق بعدم تحكيم هذا الأخير، وعدم الالتزام بقواعده المتعلقة بتسيير الشأن العام، وعلى الخصوص مبادئ الشورى والعدل والمساواة بين العربي والعجمي، واعتماد التقوى والكفاءة كمعايير لاختيار أولي الأمر، ومن جهة أخرى، نشير إلى أن وقوع الفتن ليست ظاهرة غريبة على تجربة دولة فتية محدودة الزمان و المكان، خاصة أن هذه التجربة أتت بقيم جديدة لم تعهدها القبائل العربية المتناحرة على أتفه الأسباب كالمراعي والثأر، وأن ترسيخ مثل هذه القيم يتطلب زمنا طويلا وجهادا مضنيا متدرجا للتأسيس لنموذج جديد من الحكم يستبدل الرابطة الدموية الإقليمية بالرابطة العقدية الإسلامية، ويواجه نفوذ الأرستقراطية الاقتصادية والسياسية، و يسوي بين العبيد وسادتهم، وبين العرب وغيرهم، ويجعل في أموال الأغنياء حقا للفقراء .. وأن مجرد استحضار سريع لهذه الظروف والعوامل يقلل من أهمية الفتنة الكبرى التي اعترضت طريق تأسيس الدولة الإسلامية المطلوبة شرعا، وأن صمود هذه الدولة واستمرارها رغم حدة تلك النكبات ليشكل في حد ذاته دليلا قويا واقعيا على جدارة الشريعة الإسلامية لتشكل نظام حكم يغني الحضارة الكونية في شقها السياسي وغيره .

إن الاعتراف بحقيقة كون الشريعة الاسلامية لاتحمل أية بذرة من شأنها أن تؤدي إلى فتن وحرب مذهبية أوعرقية أمر قد يضطر إليه العلماني وهو مكره . لكنه في نفس الوقت قد لايستسلم أمام هذه الحقيقة بسهولة . وإنما يلجأ إلى ذرائع أخرى كمسألة توظيف الاسلام لتحقيق طموحات سياسية أو غيرها .وهذا ما ذهب إليه قائلا :

“إن المنطق يقضي أن يؤدي الدين، بما هو عنصر توحيد، إلى إقرار نوع من الوحدة السياسة، الوحدة التي أقل درجاتها منع الاختلاف من الانزلاق إلى حرب أهلية .. الواقع أن الأمر خلاف ذلك، فالذي يحدث هو أن توظيف الدين في السياسة إنما يلجأ إليه “العقل السياسي” للجماعة عندما لا يكون من مصلحتها التعبير عن قضيتها الاجتماعية الاقتصادية، تعبيرا أساسيا صريحا مطابقا، لأن ذلك يفضح الطابع المادي الاستغلالي لتلك القضية، أو عندما لا تستطيع تلك الجماعة ذلك .. وفي كلتا الحالتين يكتسي توظيف الدين في السياسة طابعا “طائفيا” أو مذهبيا قوامه استعادة نزاع قديم وبعث الحياة في رموزه ومضامينه الإيديولوجية، الشيء الذي لابد منه لجعل تلك الجماعة تتحول إلى “قبيلة روحية” .. ولنا فيما يجري في لبنان خير مثال ..”

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق
إغلاق