أخبارمنبر حر

الذاكرة السمعية في الميزان

 

 

ذ. عبد الرحمان مجدوبي

عبد الرحمان المجدوبيتحتل المناهج الدراسية مكانة مهمة باعتبارها خطة عمل تتضمن الغايات والمقاصد والأهداف والمضامين والأنشطة التعليمية والأدوات الديدكتيكية وطرق وأساليب التقييم، ونؤشر في هذا الصدد على الاختلاف بين النهج الفرنسي الذي تستمد منه منظومتنا وتتغذى عليه، وبين النهج الإنجليزي الذي لا يرى في المنهاج شيئا سابقا على العمل البيداغوجي، بل هو واقع يعاش فعلا من طرف المدرس وتلامذته في القسم، وبهذا الطرح فدول العالم النامي أو السائرة في طريق النمو المفتقرة نسبيا لرصيد علمي ولدراسات تنظيرية تفعل في المؤسسات، أو تلك الدول التي تحاول التوفيق بين خصائص ثقافتها وخصائص ثقافة الدول الرائدة لا تتفانى في استيراد النظريات وخلق برامج التكوين فيها وإضفاء طابع المحلية عليها.

وتحتل الشخصية بمداراتها المعرفية والمهارية والوجدانية المكانة الرئيسية التي تسعى هذه المناهج إلى توجيهها، إما بالبناء أو إعادة البناء والإنتاج أو التقويم والدعم لتنشئة فرد يحقق ويخدم الغايات والمرامي والأهداف المحددة سلفا في المنهاج باستخدام الذاكرة المعرفية، أو الوجدانية، أو الحسية (بصرية وسمعية…)
فإذا كان التوجه اليوم مع بند إلزامية إدماجإعلاننا 1 التكنولوجيا في التعليم منصبا على إعطاء الأولوية للذاكرة البصرية التي تعتمد الصورة موردا في استطاعته خلق الفارق في التحصيل-إذ الأمواج الضوئية التي تستقبله العين لا تحتاج للتحول إلى طاقة حركية لكي يتم نقلها عبر الأعصاب فإشاراتها الضوئية تتحول بشكل مباشر إلى سيالات عصبية، بينما الأمواج الصوتية تحتاج لأن تتحول إلى طاقة حركية عبر أذينات الأذن الوسطى فتفقد جزءا من طاقتها فتصبح أضعف، كما أن العصب البصري أقصر من العصب السمعي، مما يجعله أسرع في عملية نقل المعلومات البصرية إلى الدماغ، وتؤكد البحوث أيضا أن الباحة المسؤولة عن الإبصار في الدماغ أكبر من الباحة المسؤولة عن السمع، مما يجعلها ذات كفاءة عالية لتخزين المعلومات، وتؤكد البحوث أيضا أن المجال البصري أوسع من المجال السمعي، حيث تتحدد أبعاد الأشياء وتفاصيلها بدقة متناهية، واكتشف العلماء أن الترددات البصرية التي يمكن أن تستقبلها العين من الطيف الكهرومغناطيسي أوسع من الترددات السمعية التي يمكن أن تستقبلها الأذن، مما يجعل التنوع البصري في المعلومات أكبر من التنوع في المعلومات السمعية – فإن الثقافة الإسلامية قد ركزت وبشكل لافت للنظر على الذاكرة السمعية، قال الله تعالى: “وإذا قرئ القرآن فاستمعوا له وأنصتوا لعلكم ترحمون” (سورة الأعراف ـ الآية 204
). إذ المقصود: تكلفوا السمع، وتعمدوا السكوت والسكون (أي ركزوا) لتفهموا وتنتصحوا، لأن في ذلك طاعة تؤدي إلى الرحمة التي قد تنالونها بما فعلتم .. والإنصات والاستماع متقاربان في الدلالة، ولكن أحدهما قد يوقع مكان الآخر، ذلك لتلازمهما، ولأن الاستماع الجيد لا يتم إلا مع الإنصات .. قال تعالى: “فلما حضروه قالوا أنصتوا، فلما قُضي ولوا إلى قومهم منذرين” (سورة الأحقاف ـ الآية 29). والآية في نفر من الجن صرفهم الله عز وجل ليستمعوا القرآن، وقولهم أنصتوا يعني استمعوا، فلما أنهى القارئ قراءته (وأنهوا عملية الاستماع وفهموا ما سمعوه جيدا) أسرعوا إلى قومهم ينذرونهم بما سمعوا.
ويؤكد هذه العلاقة بين الاستماع والإنصات قول الطرماح بن حكيم الطائي في خراف آنست صوت ذئب:
يخافتن بعض المضغ من خشية الردى وينصتن للسِّمع إنصات القُناقِن
وإنما سمي الذئب سِمعا لشدة حاسة السمع عنده، والقُناقِن هو الذي يستطيع أن يحدد موضع الماء تحت الأرض بعلامات وظواهر يجربها، وأحيانا بتسمع حركته تحت السطح.1
وقال ابن عباس رضي الله عنهما: ( لجليسي عليَّ ثلاثٌ : أن أَرميه بطَرفي إذا أقبل و أن أُوِّسعَ له في الَمجلس إذا جلس، و أن أصغي إليه إذا تحدث )2،
فعملية الإصغاء حق المتكلم واحترام للآخر وسبيل لمعرفته وطريق لإدراك محتوى كلامه وتصنيفه في خاتنه المناسبة، قال الإمام الحسن البصري رحمه الله :(إذا جالست فكن على أن تسمع أحرص منك على أن تقول، و تعلم حسن الاستماع كما تتعلم حسن القول، و لا تقطع على أحد حديثه )3
ولا شك أن الإنصات للمتحدث يورث صاحبه حب الناس وودهم، والميل إليه، وعشق مجالسته ومسامرته، قال المدائني: ( أوصى خالد بن يحيى ابنه، فقال : ( يا بُنيَّ، إذا حدَّثكَ جليسُكَ حديثاً فأقبل عليه، و أصغِ إليه، ولا تقل: قد سمعته، و إن كنت أحفظ منه، فإن ذلك يكسبك المحبة والميلَ إليك )4
ويحكي إبراهيم بن الجنيد معالم الاستماع وقواعد الإنصات كما رواها حكيم لابنه ملخصا إياها في إمهال المتكلم حتى يكمل كلامه، والإقبال بالوجه والنظر، وترك المشاركة بحديث يعرف المستمع تفاصيله لأن الخوض فيه خفة ٌوسوء أدب وسخفٌ ورعونة، قال الحكيم ٌ لابنه : ( يا بُنَيَّ، تعلم حُسنَ الاستماعِ كما تتعلم حسن الكلام، فإن حسن الاستماع إمهالك المتكلم حتى يفضي إليك بحديثه، والإقبال بالوجه و النظر، وتركُ المشاركة بحديث أنت تعرفه )5
ويؤكد ابن المقفع هذا المعطى قائلا: ( إذا رأيتَ رجلاً يحدث حديثاً قد علمته، أو يخبر خبراً قد سمعته، فلا تشارك فيه، و لا تتعقبه عليه حرصاً على أن يعلم الناس أنك قد علمتهُ، فإن ذلك خفة ٌوسوء أدب وسخفٌ)6.
وبعبارة أخرى، فإن المستمع الجيد هو الذي يعي ما يقال ويتفاعل معه بنقده، آخذا ما صح منه عاملا به، ورافضا لما لم يصح. وفي النصائح: “استمعوا وعوا” وفي الصفات المستحبة “من استمع ووعى” وهذا كله مترجم في قوله تعالى: “الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه” (سورة الزمر ـ آية 18)، لأنهم يعون ما يستمعون ويعرضونه على ميزان العقل، فيعرفون ما حسن منه ويأخذون به، ويتركون ما سواه.7
ما الذي يجعل ثقافتنا إذن ثقافة مكرسة لطرق تعليمية أكل عليها الدهر وشرب وأثبتت العلوم رجعيتها وتقليديتها في زمن سهلت التكنولوجيا استغلال الموارد بسهولة تامة وخففت
من عبء التكرار والحفظ والتلقين، من أجل صناعة تعليم تحتل فيه الكفاية الريادة، ونتعامل فيه مع متعلم يملك القدرة على النقد والتعبير عن الذات، والقدرة على اتخاذ القرار؟
تبدو الموازين كلها مائلة لصالح هذا الطرح الذي أصبح الكل يهتف به ويعتز بمحتواه لكنني كممارس أجزم يقينا أن طبيعة ثقافتنا الإسلامية تستمد قوتها من قوة الذاكرة السمعية التي لا تجعلها في غنى عن الذاكرة البصرية بالمرة، كما أن البواعث الثقافية والأيديولوجية وأدوات الاستيلاب التي تستمد شرعيتها من سيادة الغالب على المغلوب وإمداد عصى الطاعة بمزيد من القوى المكرسة لسيادة ثقافة المركز، وهامشية ثقافة الشعوب الحاصلة على الاستقلال حديثا المصبوغ بصبغة الدهاء والرغبة في تعويض سلطة العسكر بسلطة ناعمة، تحتل عرش العقليات وتسلبها الخيط الناظم للأسس والقواعد المؤسسة للهوية، تجعلني أنبه إلى ضرورة اعتماد أساليب المدارس المغربية العتيقة لكن بمكونات لا تكتفي بالزخم المعارفي فقط، بل مكتسبة لأهم الطرق والأساليب والبيداغوجيات والمقاربات التي تنعش جوانب الشخصية المهارية والوجدانية أيضا في ثورة تعليمية ذاتية تضمن استقلاليتنا، وتدفعنا نحن أيضا للإنتاج والتخطيط والاعتماد على الذات واحتلال المركز بدل الانتعاش في دنس الهامش المقيت.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق
إغلاق