منبر حر

مجادلة علمانيين

 

الإسلام

مقدمة

د. الصديق بزاوي

كثيرا ما أجد نفسي حائرا أمام ظاهرة التشرذم الذي تعاني منه أمتنا الإسلامية .وإن حيرتي هذه تشتد عندما أتأمل خطورة الخلافات ـ بل الصراعات ـ التي تعرفها الساحة الفكرية والسياسية ، فيتم تبادل الإتهامات والتراشق بالكلمات عبر وسائل الإعلام وفي جلسات الحوار. وفي ظل هذا الوضع المرضي أطرح السؤال الآتي:

هل أن هذا التشتت والتمزق لا يعدو أن يكون مجرد تنوع واختلاف في المفاهيم والتصورات، تبرره الطبيعة البشرية وسنة الحياة ؟ أم أن الأمر أعمق من ذلك لأنه يتعلق باختلاف المنطلقات والمرجعيات والاستراتيجيات والأجندات الاجنبية ؟

إن مثل هذه المسألة الأخيرة خطيرة تستحق تجنيد كل طاقات المجتمع بمختلف فئاته، من كتاب وباحثين .وفتح نقاش جدي للتخفيف من حدة المشكل ومحاصرة آثاره السلبية على وحدة وتماسك المجتمعات والشعوب والحضارات الاسلامية. وذلك رغم أن الأمرفي بعض الأحيان قد يكون مجرد اختلاف من أجل الاختلاف. فبما أنك خصمي فلا بد أن أخالفك ولو كنت مقتنعا بأنك على صواب. ومن حسن الحظ أن هذا الواقع يمكن تجاوزه، لكون الشريعة الاسلامية تمتلك من عناصر القوة ما يمكنها من المحافظة على تماسكها القوي وصمودها أمام مؤامرات التفرقة والبعثرة التي تجند لها جميع الوسائل والإمكانات.

وفي هذا الصدد أستحضر أحد الحوارات المتلفزة (1) الذي نظم حول موضوع الإرهاب. والذي شارك فيه صحفيون ومهتمون يمثلون تيارات فكرية وسياسية مختلفة. ففي ختام ذلك البرنامج ،طلب المشرف عليه كلمة أخيرة من المتدخلين. و من بين المواقف التي تم التعبير عنها والتي كانت أكثر وقعا على المتتبعين. وأكثر إثارة للغيورين على وحدة الكيانات الإسلامية موقف يدعو إلى تبني “مشروع وطني حداثي. ” وآخر يدعو إلى تبني “مشروع وطني إسلامي”. وذلك لمعالجة المشاكل التي تعاني منها الدولة ،والقضاء على ظاهرة الارهاب والني كانت قد تسببت في وقوع فاجعة أليمة بالدر البيضاء المغربية.

إن هذا الحدث ، رغم بساطة مظهره ، يعكس وجود صراع حقيقي إيديولوجي و سياسي -عقائدي خطير، رغم محاولات المتدخلين إخفاءه أثناء مداخلاتهم. فمن جهة أولى نجد تيارا علمانيا يتبنى المشروع الحداثي الديموقراطي المرتبط فكريا و قيميا بالحضارة والمفاهيم الفكرية والسياسية التي أنتجتها القوى السائدة ،والمتمثلة في القوى الغربية في الوقت الحاضر. وهؤلاء ينظرون إلى الرصيد القيمي الإسلامي نظرة دونية، إذ لا يمثل عندهم إلا قيمة تاريخية أصبح معظمها متجاوزا. لكن هذا التيار السياسي العقائدي لا يتجرأ على الإفصاح عن توجهه لأن إيديولوجيته إيديولوجية غريبة عن المجتمع المسلم وغير مقبولة عرفا وأخلاقيا ودينيا. كما سيتضح فيما بعد. ومن جهة أخرى نجد تيارا إسلاميا ينظر إلى رصيده من القيم المستمدة من الشريعة الإسلامية كثروة فكرية و سياسية، كفيلة ببناء المشروع المجتمعي و تخليق الحياة العامة ووضع مؤسسات دولة إسلامية موحدة. قادرة على مواجهة تحديات العصر من هيمنة اقتصادية وعسكرية وعولمة متوحشة وعلمانية متغربة. وهو يدافع عن مشروعه الذي ينطلق من مرجعية إسلامية. وإن هذا الأخير لا يتجرأ، هو الآخر، عن التعبير عن موقفه بكل وضوح، ربما خوفا من أن تشار إليه الأصابع وتلفق له تهم فظة ، كتهمة التزمت والماضوية أو تغذية الإرهاب ، بل وحتى الإرهاب نفسه.

كما أن ذلك النقاش يؤكد ظاهرة الإزدواجية التي تعاني منها المجتمعات الإسلامية مع الأسف الشديد.وأن هذه الازدواجية السياسية ما هي إلا أحد انعكاسات الازدواجية الفكرية والثقافية والحضارية، وأنها لتشكل خطورة كبيرة على تماسك المجتمعات الإسلامية ـ ولا نبالغ إذا اعتبرناها بمثابة قنبلة موقوتة لا ندري كيف ومتى ستنفجر ـ لا قدر الله ـ مما يهدد أمن الأمة ويبدد جهودها ويزيد من تشرذمها .وكل هذا من شأنه أن يعرقل التنمية المنشودة في مجتمعات ما أحوجها إلى جمع الشمل وتسخير كل الطاقات لمواجهة المعيقات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية، وقطع الطريق أمام المؤامرات التي تحاك ضد محاولات تصحيح الواقع المعاش و خاصة في شقه السياسي. وهذه المؤامرات تتزعمها جهات خارجية تجند لها طاقات من صلب المجتمعات المستهدفة. وبالفعل ، فقبل طبع هذه المجادلة انفجرت القنبلة الموقوتة في منطقة الشرق الاوسط بذريعة ما اصطلح عليه مهندسوه الغربيون “الربيع العر بي” الذين استثمروا انتفاضات الشعوب لخلق فتن كبرى اتخذت شكل مواجهات مسلحة تطورت الى معارك عسكرية منظمة تخطت حدود الصراع الاسلامي – العلماني، إلى صراع إسلامي – إسلامي .وهنا اختلطت الاوراق وحدثت الطامة الكبرى . وإذا كان الخطاب العلماني غير علني فإنه أصبح اليوم يتخذ شكل دعوة صريحة .ويشكل عامل استفزاز حقيقي لدعاة التمسك بأصول العقيدة الإسلامية واسترجاع أمجاد الأمة وعزتها ودورها التاريخي .وقطع الطريق أمام دعاة النظام الدولي الجديد الوحيد القطبية والعولمة المتوحشة. ومن هنا تتضح ضخامة حجم المشكل وضرورة مواجهته بالحكمة التي تعتمد أرقى أساليب الحضارة المعاصرة المتمثلة في الحوار وحسن تدبير الإختلاف. وذلك عن طريق التحاور لتقريب وجهات النظر وتقليص الفجوات .

إن محاولتنا هذه تدخل في هذا الإطار.وهي عبارة عن حجاج فكري بين تيارين مختلفين، أحدهما علماني والآخر إسلامي . وقد اخترنا له عنوان : “مجادلة علمانيين”. وأن هذا النوع من الجدال ليس بجديد، بل فرض نفسه على الفكر الإسلامي منذ زمن بعيد عندما وقعت الدول الإسلامية تحت نفوذ المستعمر الأوربي واكتوت بنيرانه. ولعل أولى ” السجالات ضد الفكرة العلمانية تعود إلى (جمال الدين الأفغاني) في رده على الدهريين في الهند. وإلى مساجلة ( محمد عبده) و (الفرج أنطوان). غير أن ذلك السجال كان في بكوره أقل حدة وعصبية… وقد شهد هذا السجال حدة أكبر منذ ثلاثينيات القرن العشرين وتسبب في تمزيق الوعي العربي ـ الإسلامي وإنجاب حرب أهلية فكرية في أواسط النخبة لم تخرج منها حتى اليوم”. بل تحولت الى كارثة مدمرة من الصعب توقع مسارها وأبعادها الاقليمية والدولية .

إن الخوض في موضوع (العلمانية والإسلام) ليطرح العديد من الإشكالات تتعلق بتحديد مفهوم العلمانية وما يثيره من دلالات ومصطلحات جلها مستحدثة، ترعرعت في بيئة غير بيئتنا. وتتعلق كذلك بالإسلام ومدى صلاحيته ليشكل مرجعية للحكم وقدرته على استيعاب الأنظمة والمؤسسات التي توصلت إليها الإبداعات البشرية المعاصرة.

يكتسي مصطلح” العلمانية” أهمية كبرى في الوقت الحاضر، نتيجة لتداوله الواسع داخل الأوساط الفكرية والسياسية في المجتمعات النامية و غيرها من المجتمعات المسلمة على الخصوص .والتي لازالت تائهة بين تعدد الأنظمة السياسية ، وتحلم بالخروج من التخلف وبالاستقرار والرفاه المادي، ومما يزيد من وزن هذا المصطلح استعماله بشكل يكـتنفه الغموض .واستغلال تعدد مفاهيمه قصد إخفاء أغراض خطيرة على العقيدة الإسلامية وشريعتها .ولا تنسجم مع توجهات السواد الأعظم للأمة وثوابتها، كما أن الإفصاح عن تلك الأغراض بشكل واضح يمثل شدودا فكريا وجريا عكس التيار، واستفزازا للمشاعر. وأنه يفتح المجال لتأويلات واتهامات قد تصل إلى درجة الردة والكفر.

أما مسألة الإسلام ،فإن الإشكال الذي يطرحه هو الاختلاف الكبير حول فهم قواعده الفرعية على الخصوص.وتعدد تأويلاتها، ونظرة البعض إليه على أنه يعرقل التقدم والتحديث والتفاعل مع الحضارة الكونية. ويقترن مفهومه بالضبابية والظلامية والإرهاب والإستبداد… وذلك مقابل مجموعة من الشعارات المعاصرة التي يحتكرها العلمانيون و يسخرونها في صراعهم السياسي ضد الإسلاميين، وذلك محاولة منهم لإظهار أن هذه الشعارات تمكن الشعوب من نيل حقوقها وتوفر لهم جو الحرية والتقدم ،أكثر مما يمكن للإسلام أن يوفره في حالة بلورته إلى إجراءات سياسية عملية. والغريب في الأمر، هو أن اليساريين الإشتراكيين اتحدوا في هذا الصدد مع اليمينيين الليبراليين و الرأسماليين رغم تباين إيديولوجياتهم. باعتبار أن الإسلام يشكل خصمهم الرئيسي المشترك . وقد نسوا أو تناسوا في هذا الصدد.الانتقادات التي كثيرا ما وجهوها للعلمانيين الرأسماليين، من استغلال وانتهازية وطبقية وابتزاز وهيمنة سلطة المال على اللعبة الديمقراطية. وتحكمها في قوت الشعوب واستعبادها لها. وكذلك نسي الرأسماليون انتقاداتهم للعلمانيين الاشتراكيين واتهامهم بالاستبداد والديكتاتورية واستغلال الطبقة العاملة ومصادرة حقوق الإنسان ، وقمع كل أشكال المعارضة باسم الدفاع عن مصالح الطبقة الكادحة…

فما أحوج الساحة الفكرية والسياسية إلى فتح نقاش عريض حول موضوع “العلمانية والإسلام” الذي يشكل أحد واجهات التدافع بين المسلمين فيما بينهم. وبين المسلمين وغيرهم. خاصة أن التدافع يعتبر ضرورة وسنة ماضية إلى يوم القيامة ،لقوله تعالي : ” ولولا دفاع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض. ولكن الله ذو فضل على العالمين .”(2) كما أن التدافع يتيح فرص البحث والاجتهاد واستعمال كل أشكال البيان والعرفان ضمن منهجية معقلنة تحدد الغاية والطريق الواجب اتباعه لبلوغ الهدف المنشود. وتمكن من قراءة الفقه الإسلامي في كليته، مع الأخذ بعين الإعتبار فقه الموازنة وفقه الواقع المتغير، وما وصلت إليه الحضارات المعاصرة بمختلف ألوانها. والاستفادة من تجارب الشعوب بمختلف توجهاتها امتثالا لقوله صلى الله عليه وسلم : ” الحكمة ضالة المسلم أنى وجدها فهو أحق الناس بها.”

إن أهداف محاولتنا المتواضعة هذه متشعبة.فمنها تصحيح بعض المفاهيم وإزالة ما علق بها من شوائب وفضح مؤامرات المغرضين والمستغربين .والتي تسعى إلى بث الشكوك حول أصول الإسلام وقواعده الكلية ومدى صلاحيتها لمسايرة تطورات العصر. وكذلك الإسهام في نشر الوعي الإسلامي .وخاصة جانبه السياسي الذي لازال يشكل أرضا خصبة للبحث والتمحيص واستنباط الأحكام. بالإضافة إلى العمل على طرح بدائل سياسية تشرك جميع مكونات الأمة في تقرير مصيرها وتطهير المنافسة السياسية من أساليب المكر والخداع والكذب الممنهج . وتقطع الطريق عن سلطة المال وشرعنة القهر والإستغلال باسم الديمقراطية المزيفة والحرية المتوحشة . وتسمح بوصول الأخيار إلى مراكز القرار بإخضاع العمليات الانتخابية للضوابط الشرعية والقيم الأخلاقية وفق مقتضيات الشريعة الاسلامية .

إن مثل هذه المحاولات من شانها أن توصل إلى حلول عملية سلمية للمشاكل التي تعاني منها البشرية في مختلف نواحي الحياة. وأن تحول الباحث الإسلامي إلى قوة اقتراحية تساهم في بناء صرح الحضارة البشرية بدلا من أن يظل مجرد مستهلك ومتلقي. و تنقله من موقع دفاع إلى موقع هجوم ، ومن موقع تابع إلى موقع رائد.

لقد حان الوقت أن ننتقل نحن المسلمين ، من مرحلة العجز. و أن نخرج من ملاجئ التراث ونستشرف المستقبل ونعد له كل ما أمكننا من قوة لكي نعمل على إنضاج بحث ذي قيمة علمية كفيل بتشكيل بديل سياسي محكم يحتوي على كل العناصر الضرورية لمعالجة واقعنا المريض.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً

إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق
إغلاق